إردوغان يضحّي بالإخوان المسلمين وبالمسلمين “عشان يعيش”
بكل بساطة قام الرئيس إردوغان خلال الأسابيع الماضية بانقلاب 180 درجة في سياسته الخارجية، ليؤكّد على أن البراغماتية هي المنهج الذي يعتمده في حياته السياسية، والتي تعني أن الموقف يكون صحيحا عندما يكون مفيدا وأن النفع والضرر هو الذي يحدد الأخذ بفكرة ما أو رفضها، وما يترتب على ذلك من تراجع أهمية الاعتبارات المبدئية والأخلاقية عند تبنّي السياسات، وهذا يقود للسؤال الرئيسي وهو على من تعود بالنفع السياسات الجديدة، فإذا قال أنصار إردوغان أنها تعود بالنفع على الدولة التركية يصبح من الصعب عليهم تبرير سياسات إردوغان طوال السنوات الماضية لأن هذا يعني أنها كانت تضر بالمصالح العليا للدولة التركية، كما أنه ليس من المألوف أن يتبنّى حزب إيديولوجي إسلامي كحزب العدالة والتنمية البراغماتية كمنهج، لأن الإيديولوجيا التي قام عليها الحزب تفرض قيودا على المغالاة في السياسة النفعية على حساب المبادئ، ولم يتبقى سوى أن هدف السياسة الجديدة تحقيق مصلحة إردوغان نفسه كشخص.
فبعد أكثر من سبع سنوات من تبنّي سياسة ثابتة تجاه مصر تنطلق من اعتبار ثورة يونيو 2013 وما أعقبها انقلاب عسكري وعدم الاعتراف بالسلطة الناتجة عنها، مع ترسيخ شارة رابعة كشعار يستخدمه إردوغان مع أعضاء حزبه في جميع المهرجانات للتأكيد على موقفه هذا، مع قوله في مناسبات كثيرة أنه لن يقبل أبدا مصالحة السيسي، وما رافق ذلك من استقبال الآلاف من المعارضين المصريين والسماح لهم بافتتاح محطات تلفزيون في تركيا، انقلب موقفه رأسا على عقب مع بداية العام الحالي.
وبدأت خطابات التودد من إردوغان تجاه مصر ورئاستها ترافقت مع مباحثات بين الجانبين انتهت بإصدار تعليمات لمحطات المعارضة المصرية في تركيا بأن توقف هجومها على النظام السياسي في مصر، بما يعني عمليا التمهيد لإغلاق هذه القنوات لأن معارضتها السياسية هي السبب الوحيد لوجود متابعين لها، ورغم كل التطمينات التي يطلقها مسؤولون أتراك حول استمرار عمل هذه القنوات أو حول عدم وجود أي نية لتسليم معارضين مصريين لسلطات بلادهم، ولكن من الصعب الجزم بأي شيء لأنه لا أحد يعرف ما الذي يدور في رأس إردوغان الشخص الوحيد الذي يملك القرار النهائي في جميع القضايا.
كما استقبل أردوغان قبل أيام وزير الخارجية الصيني مما أثار استياء عشرات آلاف اللاجئين الإيغور في تركيا، فتجمع بضع مئات منهم أمام مبنى الخارجية التركية مندّدين بهذه الزيارة، وظهرت مخاوف عند بعضهم بأن يتم تسليمهم للصين مقابل صفقة لقاح كورونا صيني بما يعكس ثقتهم المحدودة بمواقف إردوغان، خصوصا مع وجود اتفاقية لتسليم “المجرمين” بين البلدين وقيام السلطات التركية باحتجاز سيت توتورك رئيس الجمعية الوطنية لتركستان الشرقية في منزله أثناء زيارة الوزير الصيني.
ورغم تصريحات مسؤولين أتراك بأن تركيا لن تسلّم الإيغور للصين لكن العديد من الجمعيات واللاجئين الإيغور يتهمون السلطات التركية بطرد أفراد من هذه الأقلية سرّا مع أن الإيغور مسلمين يتعرضون لواحدة من أكبر عمليات التطهير العرقي في التاريخ تتضمن سجنهم في معسكرات كبيرة وتعرضهم لعمليات تعقيم قسرية، وهم فوق ذلك من العرق التركي بما يجعل لتركيا مسؤولية مضاعفة تجاههم، ولكن سياسة إردوغان “البراغماتية” تعطي أولوية لتحسين العلاقة مع الصين على حساب معاناة الإيغور.
وفي نفس الوقت ظهرت مؤشرات على توافقات روسية تركية حول شمال غرب سوريا تتضمن فتح ثلاث معابر بين مناطق خفض التصعيد الخاضعة للسيطرة التركية ومناطق سيطرة النظام بهدف إدخال المساعدات الإنسانية للنظام عبر مناطق المعارضة، ترافقت مع ضغط روسي لوضع “باب الهوى” المعبر الدولي الوحيد بين هذه المنطقة والعالم الخارجي تحت سيطرة النظام السوري.
وإذا تحقق ذلك فإنه سيمهّد الطريق أمام روسيا لاستخدام الفيتو لحصر إدخال المساعدات الدولية عبر النظام السوري وبالتالي تجويع المناطق غير الخاضعة لسيطرته كما فعلت روسيا سابقا في كثير من المناطق السورية، وليس من المستغرب على من ضحّى بالمعارضين المصريين أن يتبنى السلوك نفسه في سوريا، خصوصا بعد سنوات من المشاركة التركية في مسار أستانة الروسي الذي ليس له من هدف سوى الالتفاف على القرارات الدولية حول سوريا لمصلحة الحل الروسي وإبقاء نظام الأسد.
وضمن نفس التوجه أجرى إردوغان في شهر مارس الحالي اتصالا عبر الفيديو مع الرئيس الفرنسي ماكرون أكد خلاله على “أهمية العلاقة بين البلدين كعضوين في حلف الأطلسي بما يقدم مساهمة في تأمين الأمن والسلم الدوليين وطي صفحة الماضي”، وسبق هذه المكالمة تعيين صديق دراسة لماكرون سفيرا لتركيا في فرنسا، ولم يشعر إردوغان بالحرج عند التودد لماكرون رغم أنه شكّك قبل بضعة أشهر فقط بصحته العقلية وحث على مقاطعة البضائع الفرنسية نتيجة ما اعتبره الإساءة المتكررة للرسول محمد من قبل فرنسا، ورغم أن ماكرون لم يغيّر من سياسته في محاربة التهديد الإسلامي.
ترافق هذا الانقلاب الدراماتيكي في الموقف التركي مع مجيء جو بايدن لرئاسة الولايات المتحدة، والذي يتبنى موقف واضح برفض تجاوزات إردوغان في ملف حقوق الإنسان داخل تركيا والذي تظاهر باعتقال عشرات آلاف المعارضين بذرائع مختلفة، وكذلك إدانة سياسات إردوغان الاستفزازية في شرق المتوسط، وتأكد ذلك بأن بايدن لم يتصل حتى الآن بإردوغان رغم مضي أكثر من شهرين على دخوله البيت الأبيض، وبما أن لبايدن علاقة حسنة مع أوروبا فإن هذا قد يسمح له ببلورة موقف مشترك أوروبي أميركي ضد سياسات إردوغان قد تترافق مع فرض عقوبات مشتركة على تركيا تزيد من متاعبها الاقتصادية.
وفي نفس الوقت هناك جهود من أعضاء في الكونغرس الأميركي لتحريك عدة دعاوى في الولايات المتحدة ضد الرئاسة التركية تتناول اعتداء مرافقين لإردوغان على متظاهرين سلميّين خارج البيت الأبيض عام 2017، وتلقّي مايكل فلين مستشار الأمن القومي الأسبق للرئيس ترامب رشوة من تركيا، ودفع وزارة العدل لمتابعة قضية بنك خلق الذي التف على العقوبات الأميركية على إيران عام 2012 وأرسل لها 20 مليار دولار بمعرفة إردوغان.
وقبل بضعة أيام تم الكشف عن السبب الحقيقي لهذا الانقلاب في المواقف التركية عند انطلاق أعمال المؤتمر السابع لحزب العدالة والتنمية، والذي كان شعاره وضع خارطة طريق نحو الانتخابات المقبلة عام 2023 وجرى في هذا المؤتمر تجديد الثقة بالرئيس إردوغان “بالإجماع” مثل جميع الأحزاب الشمولية، بما أوضح أن هدف هذه السياسات الجديدة تمهيد الطريق أمام إردوغان للفوز في هذه الانتخابات، لأنه من الصعب تحقيق ذلك إذا لم تكن الحالة الاقتصادية والعلاقات الخارجية جيدة.
أي أن إردوغان نفسه الذي تبنّى طوال العقد الماضي سياسات شعبوية تصرّف خلالها وكأنه خليفة لجميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها عندما كان يعتقد أن مصلحته الشخصية تتطلب ذلك، رأى اليوم أن مصلحته تقتضي أن يضحى بالإخوان المسلمين المصريين ومسلمي الإيغور الأتراك في الصين، وتقديم تنازلات للروس في سوريا ولماكرون في فرنسا حتى يفوز هو في الانتخابات المقبلة، فبعد أن تحوّل إلى ديكتاتور لم يعد بإمكانه تحمّل فكرة فقدان السلطة التي وصل إليها منذ ما يقرب من عقدين.
المصدر: الحرة