ضياع في استنبول١٧
حين امسكت بالريشة في مرسم المصح اول مرة ارتعشت يدي فكأن تيارا كهربائيا مر عبرها. تذكرت الجلسات الكهربائية في المستشفى في سوريا ، وفي السجن عندما اعتقلت مدة شهرين عند عودتي من امريكا. تموجت الريشة بين اصابعي ورسمت اول ما رسمت وجه ابنتي . الطبيب المناوب صفق لي ، فبكيت دون أن التفت إليه . سألني ماذا كنت تعملين من قبل ؟فأجبته : رسامة . نظر إلي ثم طلب أن يراني على انفراد . في غرفته حاول أن يقبلني ويلمس عجينة نهدي . قلت له دون أن أتحرك أو أشعر بأن رجلا أمامي : هل تريد أن تضاجع جثة ؟ بعد أيام قليلة من تلك الحادثة صار المصح تحت وصاية الهلال الأحمر التركي . فطلبت من المدير أن يستفسر لي أين دفنت ابنتي بعد أن أعطيته اسمها الثلاثي ؟. ولم يمر يوم حتى جاءني بأخبار فرحة. تقدم مني مبتسما وقال برقة غير اعتيادية :ابنتك مازالت حية ،إنها في ميتم إسلامي سوري . لقد أغمي علي من الفرح أو من صدمة الحياة بعد الموت . وذهبت إليها . عندما رأيتها بين مجموعة من الفتيات المتشابهات باللباس لم أعرفها . فقد كانت محجبة بالسواد كاملا من رأسها حتى أخمص قدميها، وتذكرت أمي حين كانت تلبسني الجلباب الأسود مع الحجاب بالقوة ، فسرت قشعريرة في جسدي ، جعلت لحمي يندلق على الأرض كحلزون مقرف . اندفعت ابنتي الي وعانقني وهي تشهق بالبكاء . . نظرت اليها غير مصدقة انها هي . تأملتها من وراء دموعي الساخنة وقلت لها مازحة .. اعتقدت انك فتاة من أفغانستان . أردت أن آخذها ، لكن مديرة الميتم رفضت ذلك، فهم الأوصياء عليها الآن .طلبت مني البقاء معها ، شرط أن أتحجب وألبس اللباس الشرعي .قبلت بعرضها ، فكان علي أن أصافحها بيدي اليمنى وانتشلها منها بالأخرى . اخبرتني ابنتي بمعاناتها عندما لم أذهب تلك الليلة الى الفندق الذي حجزت فيه غرفة ليوم واحد . قالت لي وهي تلف ذراعيها البضتين الدافئتين : شعرت بالخوف عليك . قلت في نفسي ان مصيبة وقعت لك. لم اعرف ماذا افعل وقتها ،لقد قضيت الليل كله صاحية وجائعة . صباحا اخبرت مدير الفندق انك ذهبت ولم تعودي ليلة البارحة ..فاتصل برجال الشرطة ، فاتوا وحققوا معي ثم وضعوني في هذا الميتم . في إحدى ليالي شهر آب ، حملت حقيبة ابنتي وهربنا تحت جنح الظلام الدامس ، تاركين وراءنا دون أسف الحجب السوداء التي تحيط بالميتم من الداخل والخارج.