علي سالم يكتب عن رحلته إلى إسرائيل “الجزء الثالث”

دير الراهبات البيض

دفعت حساب الفندق وأخليت الغرفة ووضعت حقائبي في مخزن صغير ملحق بمكتب الاستقبال، خرجت وتجولت قليلا على الشاطئ إلى أن يحين موعدي مع ساسون وكارين في الحادية عشرة صباحا. ذهبنا إلى حيفا بسيارة ساسون، المسافة تستغرق أقل من ساعة، زرنا صديقين الساسون يعملان في جامعة حيفا، الأستاذ يوسف وزوجته وهما من عناصر السلام النشطة، تجولنا قليلا في حيفا، سكان الوديان يشعرون بانبهار عند رؤية المدن الجبلية.

الجزء الأول من رحلة علي سالم إلى إسرائيل

الجزء الثاني من رحلة علي سالم إلى إسرائيل

كلمة جبل عندنا نحن سكان وادي النيل تعني المكان الموحش الذي يسكنه المطاريد والوحوش، لذلك من الطبيعي أن يستولي علينا قدر كبير من الذهول والإعجاب عندما نرى الجبال وقد تحولت الحدائق وشوارع نظيفة وبيوت أنيقة.

من مكان مرتفع أخذ مضيفانا يشرحان لنا خريطة المدينة.. هذا هو الميناء، في أقصى الشمال، هذه هي حدود الجنوب اللبناني.. وهذه التلال التي تراها بوضوح هي مرتفعات الجولان. طلبت منهما أن نتناول الطعام في مطعم عربي شعبي بسيط، فعهدي بالمطاعم الفخمة المخصصة للسياح أنها تبيع الفخامة فقط. كان هذا ما فكرا فيه فعلا. المطعم أشبه بالعنبر الكبير أو بالميس، مجرد موائد ومقاعد وقد امتلأ عن آخره بالبشر، اتضح أنه كان أحد مباني قيادة القوات البريطانية أثناء فترة الانتداب. الكفتة هنا يسمونها كبابة، والكباب يسمونه شقف لحم، في الغالب ستمضي عدة مئات من السنين قبل أن يتمكنوا من صنع كباب وكفتة تضاهي ما نقدمه في مصر، بشرط الاستعانة بخبراء مصريين مع بذل جهود مكثفة لتوحيد المصطلح في هذا المجال.

عندهم طبق يسمى “المجدرة” مصنوع من الأرز والعدس “أبو جبة” في الغالب هذا الطبق توقف في مكانه على سلم النشوء والارتقاء منذ آلاف السنين. أقصد أنه لو كان قد سمح لهذا الطبق أن يتطور تطورا طبيعيا في ظروف حياتية مبدعة ومستقرة ، لتحول في النهاية لطبق الكشري المصري الشهير.

ما ضايقني في المطعم هو صاحبه نفسه، يبدو أن امتلاء مطعمه بالبشر أصابه بنوع من التعالي جعله يقول أنه لم يستمتع بالأكل في القاهرة. عموما للناس فيما يأكلون مذاهب.

* * *

غادرنا حيفا في موعد مناسب لنصل إلى نتانيا في الرابعة بعد الظهر وهو موعدي مع سليمان ليأخذني إلى قرية أم الفحم، قال سليمان: ستسير ورائي.. أريدك أن تتنبه عند العفّولة.. سنسير في نفس الشارع الذي وقع فيه الحادث منذ يومين.

– أي حادث؟

* ألا تعرف..؟! سيارة ملغومة اصطدمت بأحد الأتوبيسات وتسبب الانفجار في إصابة الكثيرين وقتل عرب ويهود.. أحد الشبان لغم نفسه وملا السيارة بالمتفجرات ثم توقف فجأة أمام الأتوبيس فاصطدم به…

– ألا نستطيع الالتفاف حول الشارع والذهاب من طريق آخر؟

* لا.. لابد من المرور من نفس الشارع في طريقنا لأم الفحم.

وقع الحادث يوم الأربعاء، وأنا دخلت إسرائيل يوم الخميس، هذا هو إذن السبب في ذلك التوتر الشديد الذي أصاب جنود الموقع عند الحدود، وهذا هو أيضا السبب في توتر بعض السائقين وشعورهم العدائي تجاهي أحيانا، كانوا يضغطون على آلة التنبيه لمجرد أنني اقتربت من الخط الأبيض المتقطع على الطريق السريع، وفي طريق الكورنيش من تل أبيب يافا، حدث عدة مرات أن شعرت من الطريقة التي يكبسون بها على أنهم يريدون اكتساحي من أمامهم، مع أني كنت أسير بالسرعة التي أرى أن إيقاع الشارع يحتمها. وهذا هو أيضا السبب في اهتمام الشرطة في نتانيا وحرص الضابط على كتابة ورقة أعلقها على زجاج السيارة.

يا إلهي، كنت أتحرك كل ذلك الوقت في حضن الخطر دون أن أدري.

السيارة التي انفجرت في العفّولة لم تكن تحمل لوحة الأرقام السوداء التابعة للضفة، كانت مسروقة من إسرائيل وتحمل الأرقام الإسرائيلية الصفراء، ولكن من المعروف طبعا أن هؤلاء الذين تلسعهم الشوربة ينفخون في الزبادي، والزبادي هنا هي سيارتي ذات اللوحة السوداء والأرقام العربية.

في مكان الحادث في العفّولة، أقام عدد كبير من الشباب عدة خيام على الرصيف وكأنهم يقيمون سرادقا للعزاء في نفس الموقع، ولكن المرور لم يكن متوقفا، هم لا يوقفون السيارات، حتى لوتنبه أي متطرف إلى أن سيارتي عربية، سأكون قد ابتعدت عن المكان قبل أن يفكر في إلحاق الأذى بي. تنفست الصعداء عندما غادرت العفّولة.

أم الفحم قرية عربية صغيرة يسكنها عدة آلاف، حواری ضيقة متشعبة صاعدة في الجبل بزوايا حادة. كيف كان الناس يصعدون إلى منازلهم قبل اختراع السيارات. شعرت أحيانا أنني أتسلق حائط بسیارتي، لن تشعر بالغربة في أم الفحم فهي لا تختلف كثيرا عن أي مدينة صغيرة في البحيرة أو المنوفية.

في مدخل القرية هناك شعار القرية، إبريق كبير من الصلب الذي لا يصدأ أقيم على تل مرتفع، إنه إبريق الوضوء، أقامه عمدة القرية الذي هو أيضا رئيس بلديتها، كما أقام لافتات كثيرة صغيرة متناثرة على قوائم حديدية تحمل شعارات دينية، من الواضح أن هناك من لا يوافقه على اتجاهه فحطم له بعض هذه اللافتات، هو بالطبع متدین معتدل ومستنير ومؤمن بالديموقراطية بدليل وصوله لمنصبه بواسطتها، من أجل أن يهتم بعناصر الحياة في القرية، طرق، تعلیم، صرف صحي، نظافة فرص عمل، ولكنه خلط بين اختصاصاته واختصاصات إمام القرية، فضيع وقته وجزءا كبيرا من ميزانية القرية في تأهيل أهل القرية للتعامل مع الآخرة، تاركا الاهتمام بهذه الحياة الدنيا للآخرين من رؤساء بلديات المدن الكافرة.

طلبت من سليمان أن يحجز لى فندقا في الناصرة لمدة ثلاث ليال ابتداء من صباح الغد، بحث في دليل التليفون ثم اتصل بفندق يسمی سانت جابرييل .. اسألهم بكام يا سليمان:

– بخمسة وثلاثين دولار..

* كتيريا سليمان.. نحن الآن في الوقت الميت من الموسم..

طبعا أنا لا أعرف الوقت الميت والوقت الصاحي في المواسم السياحية في الناصرة، ولكن لا بأس من استخدام المصطلح من أجل الحصول على تخفيض.

عاد سليمان يتكلم في التليفون: خمسة وثلاثين كبير.. كفاية ثلاثين.. حضرتك اسمك إيه؟ مریم..؟ أهلا وسهلا.. طيب يا مريم .. ستأتي لك غدا صباحا.

قضيت الليلة عند سليمان وفي الصباح استيقظ هو مبكرا فلديه عمل يؤديه في القدس وطلب من أخيه محمد أن يسير أمامي بسيارته إلى الناصرة. وأنا خارج من أم الفحم توقف موتور السيارة عدة مرات، حدث انسداد في “بيك السلانسيه” بسبب ذرة تراب، وهو عيب بسيط وسخيف ولكنه قد يكون قاتلا هنا، فالطرق جبلية صاعدة وهابطة وعدم التحكم في السيارة للحظة واحدة بسبب توقف الموتور قد تنتج عنه كارثة. نبهت محمد بأضواء الفلاشر أنني سأتوقف، طلبت منه أن نذهب لأول ميكانيكي، بعد دقائق تمكنت من شرح العيب للميكانيكي، مفردات ميكانيكا السيارات في مصر فرنسية وهنا إنجليزية، وأخيرا قال لي: آه.. آه .. أنت تقصد الدورة الهادية.

– بالضبط .. الدورة الهادية للموتور هي ما نسميه بالسلانسيه ..

قام بنفخ البيك، بماكينة هواء يدوية، راجع مياه الرادياتير والبطارية، جاء بزجاجة بها مادة مانعة للصدأ، وضع قليلا منها في الرادياتير وأعطاني الزجاجة، راجع زيت الفرامل والدبرياچ، طلبت منه أيضا أن يشد فرامل اليد، نحن في مصر لا نستخدم فرامل اليد أثناء القيادة إلا نادرا، ولكن في الطرق الجبلية لابد أن تكون صالحة للعمل بكفاءة عالية. رفض أن يحصل مني على مليم واحد فأعطيته كتابا من كتبي، في أحيان كثيرة أنا أستخدم كتبي بديلا عن العملة.

مرة أخرى أمر من نفس الشارع المنكوب في العفّولة، المرور متوقف هذه المرة، هناك زحام كبير عند موقع الحادث، ولكني كنت أشعر بقدر من الاطمئنان بعد أن عرفت أنه على بعد أمتار توجد نقطة الشرطة والإسعاف والمطافىء والمستشفى، وهذا هو ما ساهم في إنقاذ عدد كبير من الضحايا بسرعة..

* * *

هذه هي الناصرة إذن، كم هي جميلة، الطمأنينة والطيبة ترتسمان بوضوح على كل وجوه البشر، لا تقاطيع متوترة أو مشدودة.

فندق سانت جابرييل، كان ديرآ من قبل، كان يسمى دير الراهبات البيض، وهو مبني على قمة جبل يشرف على مدينة الناصرة ، الرهبان عادة يختارون مكان مرتفع وبعيدا لبناء الأديرة، الإرتفاع والبعد يشكلان الفكرة الأساسية في اختيار المكان الذي يبني فيه الدير، الارتفاع يشعرك بالاقتراب من السماء، والبعد يجسد فكرة الابتعاد عن خطايا البشر.

ولكن البشر يتكاثرون ويزحفون على كل مكان وهنا يفقد الدير فكرتي البعد والارتفاع، ولابد من تحويله لشيء آخر، دعاني الشاعر سميح القاسم إلى مطعم في وسط الناصرة كان ديرآ هو الآخر. لقد نزلت في أسفاري في فنادق كثيرة ولكني شعرت هنا براحة لم أشعر بها من قبل. وكأن الرهبان الذين سكنوه من قبل، تركوا بين جدرانه قبل أن يرحلوا، كل ما كان عندهم من رقة وطيبة. أمر واحد كان يضايقني، كنت وحيدة..

الوحدة مطلوبة عند الإبداع أو في معارك التحدي، أو في الظروف السيئة، ولكنها تفقدك الاستمتاع بكل ما هو ممتع.

في مكتب الاستقبال يستلفت نظرك طقم أنتريه عربي جميل، فتاة عربية في مكتب الاستقبال.

* حضرتك مريم؟

– نعم.

* أنا فلان.. وقد تكلمنا معك بالأمس..

. أهلا وسهلا…

* يا مريم يا أختي.. الثلاثون دولار كثير.

– خلاص نخليهم ثمانية وعشرين.

* برضه كتيريا مريم يا حبيبتي ..

ابتسمت الفتاة في رقة وطيبة وقالت: عاوز تدفع كام؟.

  • عاوز أدفع خمسة وعشرين..
  • –    * خلاص.. نخليهم خمسة وعشرين.

عوملت في الفندق معاملة كريمة، عندما كنت ألتقي ليل نهار، بأي شخص من العاملين كان يسألني: تشرب قهوة؟ لقد لاحظوا في البداية أنني كييف قهوة، ويبدو أنهم خشوا أن يمنعني سعرها المرتفع من طلبها بالكثرة الواجبة، بشكل عام كانوا على وعي بأن الأسعار هنا لا تناسب المصريين، وذلك من خلال زياراتهم المتكررة لمصر. وبالمناسبة أنا أعتقد أن أي شعب بحاجة لأكبر كمية من الشر ليكره المصريين، لا أقول ذلك لأنني مصري، ولعلي أقوله لأنني مصري.

عندما غادرت الفندق قالت لي مريم: أستاذ علي، أنا حزينة جدا لأن صاحب الفندق ليس هنا.. هو يحب مصر جدا، طبعا نحن جميعا نحب مصر، ولكنك لا تتخيل حبه لها.. انظر، هذا الأنتريه العربي من مصر..

هذه المقاعد من مصر.. تجهيزات الغرف والمطعم أغلبها من مصر.

***

اتصل بي ساسون وأخبرني أن جريدة كل العرب التي يرأس تحريرها سميح القاسم سترسل لي محررها الأدبي سليمان أبو ناطور الإجراء حوار معي، بعد ذلك بدقائق أبلغني موظف الاستقبال أن صحفيا اسمه فایز عباس اتصل وقال أنه في طريقه للفندق.

– فايز عباس.. من أي جريدة؟ لا أعتقد أنه يعمل في جريدة كل العرب.

يبدو أن المحرر الأدبي أرسل شخصا آخر، وجاء فايز، شاب له لحية كثيفة ويرتدي نظارة قاتمة، اللحية الكثيفة والنظارة تحولتا لقناع ثقيل يخفي عنك حقيقة شعوره تجاهك، فتظل تشعر طول الوقت أنه بعيد عنك ..

– لماذا أنت هنا؟

* أنا هنا دعما لاتفاقية أوسلو، ودعما للسلام الفلسطيني الإسرائيلي، وأعرف الناس عن قرب.

– ولماذا بالسيارة ؟

* لإعادة تذكير الناس بأن بيننا وبينكم حدود مشتركة.. وأننا قريبون منكم وأنتم قريبون منا، وأنه لا بد من صنع السلام من أجل حرية الإنسان الفرد وحقوقه بما هو إنسان وليس بما هو يهودي أو مسلم أو مسيحي أو يدين بأي دين آخر..

– هل هذا أمر سهل..؟

* لا.. هو صعب للغاية.. وقد يكون داخلا في دائرة الأحلام، ولكن كل ما حققه البشر على الأرض كان يبدو يوما ما حلما مستحيلا..

دعاني فايز للغداء في مطعم الفندق فطلبت منه أن يغير موقع الدعوة، لمجرد التغيير: لماذا لا تدعوني في مطعم في البلدة؟

– وقتي ضيق، ولدى مواعيد كثيرة..

* حسنا لنؤجلها.. ولكن من فضلك لدي عدة كتب أرجو توصيلها

لسميح القاسم.. أنت عائد الآن للجريدة طبعا..

– لست أعمل في جريدة كل العرب.

* أليس هذا الحوار لكل العرب؟. لا.. هو ليديعوت أحرونوت.

* حسنا.. هل تتفضل بأن تأخذني معك في طريقك وتتركني أمام

الجريدة؟

تبخرت دعوته للغداء بسرعة البرق، لم يكافح من أجل تحقيقها، أوصلني إلى مبنى الجريدة وأشار إلى الطابق الذي تحتله ثم مضى في طريقه ولم أشاهده بعد ذلك. عندما أتذكره أشعر بالدهشة، لماذا لم أشعر تجاهه بالود؟!

سميح القاسم شاعر کبير مشهور وشخص يتسم بالرقة والعذوبة والوسامة، يبدو مستمتع بحياته، حاضر الذهن دائما وقدرته على تلخيص فكرته مذهلة، عندما تراه تشعر أنك تعرفه منذ زمن طويل، وأنه تربطك به علاقة طويلة قوية، هو صديق لك باعدت بينكما الأيام. كانت المرة الأولى في حياتي التي أراه فيها فأحببته، قال سميح: المثقفون عندكم لا يريدون زيارة إسرائيل.. من طلب منكم زيارة إسرائيل؟ زورونا نحن.. زورونا في وطننا.. هذا هو الوطن، نحن نعيش هنا في وطننا.. عندما زرت مصر سألوني عن انطباعي فقلت لهم: انتقلت من وطن إلى وطن.

تناولنا الغداء معا في مطعم ماريا فونتانا الذي كان ديرآ من قبل، سميح من النوع الذي تحب أن تتناول طعامك وشرابك معه، من الصعب العثور على مثقف يفتح شهيتك للطعام، عدنا للجريدة، طلب من محمود أبو رجب سكرتير التحرير توصيلي للفندق..

في المساء جاء محمود ومعه زوجته، أجرى معي حوارا طويلا، ثم أخذني إلى بحيرة طبرية.

السياحة مرة أخرى، هي بحيرة كبيرة تحتضنها المطاعم والفنادق والكازينوهات والناس ساهرة حتى الصباح. أعادني إلى الفندق في الواحدة بعد منتصف الليل، أشعر بالإعياء، هناك كيس دهني في رقبتي، لم يكن يؤلمني الشهور طويلة، فنسيته أو تناسيته، فجأة التهب بشكل ينذر بالخطر، لا بد من الذهاب لطبيب، طلبت من محمود أن يأخذني في الصباح إلى طبيب.. يبدو أنني مريض فعلا فقد عجزت عن النوم من شدة الألم..


https://kalamfisyassa.com

2 comments

  1. Pingback: علي سالم يكتب عن رحلته إلى إسرائيل “2” – كلام في السياسة

  2. Pingback: علي سالم عن رحلته إلى إسرائيل “الجزء الأول” – كلام في السياسة

اترك رد