أبي والعصافير


أبي العزيز :
هل تعتقد أن الأحلام يمكن أن توحّد العواطف ؟ وتكون أقرب إلى الواقع من الواقع نفسه . سأروي حلمي لك بكل تفاصيله : الليلة الماضية .. رأيتك في واد عميق ، ترفع يدك للأعلى وتصرخ باسمي .. نزلت المنحدر إلى الوادي الغارق في العتمة المدلهمة .. بحثت عنك طويلا و لم أجدك، كان معولك الذي لمسته مرارا .. مرميا على الحجارة بجانب النهر . . حملته ومضيت . ندهت : أبي .. أبي ! لم ترد. كان غيابك أقوى من حبي لوجودك . لحظتها شعرت بالألم المهمل يسري في عروقي ويتفجر بكاء ونحيبا غاضبا.
استيقظت من حلمي متعرقا وخائفا . لم اذهب إلى مدرستي ، اعتذرت عن الحضور ثم حزمت حقيبتي .. وجئت إليك .. ضممتك بلهفة عند رؤيتك جالسا إلى الكرسي تتأمل الشمس الغاربة .. تلمستك بأصابعي .. ومررت يدي فوق يدك .
لاحظت في عيني ترقرق الدموع ورجفة الروح . علمت وقتئذ أن الحلم يصنع الخوف .. كما يصنع الفقد . ترويت حتى هدأت . لم أصارحك بشيء .. ولم أرو لك حلمي . لقد غرت في صمتك الطويل النبيل . نظراتك اللامعة صنعت من الإيحاء لغة ذات معان جديدة .
لم تسألني لم تركت مدرستك وطلابك .. وأتيت بشكل مفاجئ إلى القرية ؟. . كنت عاشقا للصمت وللحب . أبي العزيز : لقد ورثت الهدوء من النسيم .. والحكمة من المطر .. والحنين من الشجر حينما يثمر .
أتذكر عندما أخذتني وأنا لم أتجاوز السابعة من العمر إلى الجبل .. هناك فرشت ذراعي وطرت حقا .. عندما رفعتني فجأة للأعلى . روحك الصامتة تغلغلت في روحي .. فسبحت في فضاء لازوردي مشع .. وحلقت في عينيك الضاحكتين .. الجائعتين للبراري .
أتذكر علبة الصفيح المملوءة بالماء المخلوط بسم دود ة الثمار .. و مرشك ذا الذراع المعدنية . كنت ترش أشجار التفاح . . وتنتقل من شجرة إلى شجرة..وحينما نبهتك إلى أنك تجاوزت شجرة تفاح ذات الثمار الحمراء.. وضعت الصفيحة على التراب.. ورفعتني ، لأرى عشا تضج فيه أربعة أفراخ لم ينبت عليها الريش بعد .. ونطقت بدفء : ستكون بلابل جميلة حينما تشدو على هذه الأشجار .
عند الظهر ذهبت إلى أعلى الجبل.. حملت معولك لتنظف التراب من النباتات المتطفلة . لم تكن في البيت .. حينما عدت من زيارة خاطفة لأحد الأقارب .. قالت لي أمي أين سأجدك .
أبي العزيز .. في الطريق الصاعد إلى قمة الجبل .. وجدت آثار قدميك .. مضيت مثقلا بتنبيهات الذاكرة والحلم . كانت قدماي مغروستين في الخوف والقلق . . في انتظار الصوت والصدى وتأكيد لحظة الألم السري .
ركضت ، لهاثي كان أشبه بحمحمة حصان بري .. وجسدي المتعرق أغرق ثيابي في بلل مالح .
في الأعلى شاهدتك مزروعا مثل شجرة شامخة .. كنت تتأمل الوادي السحيق .. وتنظر بعيني عصفور إلى السماء والجبال المخضرة . المعول كان أمامك .. وفرحك الجليل أيضا . رمقتني قليلا .. وابتسمت . الشجر كان يزقزق .. والأرض أيضا .. وكنت ماضيا في خوف مستحيل .
اقتربت منك .. فرأيت بلبلا على كتفك .. بلبل طار حينما شاهدني ، وحط فوق الشجرة التي تجاوزتها أنت عندما كنت صغيرا .

https://kalamfisyassa.com

اترك رد