إدلب.. وخلط أوراق التحالفات

ويأتي الاتصال الهاتفي بين الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، والتركي، رجب طيب أردوغان، في 27 من كانون الثاني الماضي، في سياق مزيد من التحذيرات الموجهة لموسكو، إذ أوضح المتحدث باسم البيت الأبيض، جاد دير، أن ترامب وأردوغان تناولا في الاتصال ملف محافظة إدلب، التي تتعرض لحملة عسكرية كبيرة، واتفقا على أن “العنف الذي تشهده إدلب يجب أن يتوقف”.

تصريحات المتحدث الأمريكي، لا تتوازى مع تصريحات غاضبة، أدلى بها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وقال فيها إن صبر تركيا بدأ ينفد حيال الحرب على إدلب، وهذا يعني على المستوى السياسي، أن الروس الذين كانوا وراء مفاوضات “أستانة”، هم من يخرقونها، وبالتالي تعتبر نتائج “أستانة” لاغية.

أمام هذه الحالة الجديدة تنبغي معرفة اتجاهات تطور الحرب على إدلب، ونتائج هذه الحرب على المنخرطين فيها، وتحديدًا على سكانها البالغ أكثر من ثلاثة ملايين نسمة، وعلى الدولة التركية بالمعنيين السياسي والأمني.

إن ما يجري من تهجير لسكان المدن والقرى في إدلب تحت القصف الروسي الوحشي والمدمر، لا يمكن قبوله على أنه عمل عسكري غايته فتح الطريقين الدوليين “M4” و”M5″، فهذان الطريقان يمكن ترتيب مرور التجارة عبرهما دون اضطرار لعمليات عسكرية كبرى.

ولكن صار من الواضح أن الحرب على إدلب غايتها السيطرة التامة على هذه المحافظة من قبل النظام، وهذا يعني تهجير سكانها وقتل من يمكن قتله، تحقيقًا لنظرية التجانس السكاني التي يتبناها النظام السوري، وأن السيطرة على إدلب من قبل روسيا وحلفائها تعني زيادة أوراق القوة والتفاوض بيد الروس، وتحديدًا بعد أن صار الوجود العسكري الإيراني هدفًا علنيًا للولايات المتحدة الأمريكية، التي تريد تصفية هذا الوجود.

ولكن هذا المخطط الروسي يصطدم بالمصالح التركية، وتحديدًا ما يتعلق بمسألة أمنها القومي، إذ إن امتلاك روسيا ورقة إدلب، يعني كنتيجة خروج هذه الورقة المهمة من اليد التركية.

الروس يعتقدون أنهم مضطرون للوحشية المبالغ فيها ولشدة الضربات العسكرية التي يقومون بها، فالوقت أمامهم محدود، وتحديدًا بعد صوغ الاستراتيجية الأمريكية حيال الصراع السوري، ولهذا هم يريدون الحصول على أكثر مكاسب ممكنة في إدلب، قبل تغيّر اتجاه السياسة الأمريكية، التي أعلنها الأمريكيون من أنقرة.

ولكن الوحشية الروسية تريد تحقيق مصالح خاصة بالروس في الملف السوري، وهذا يعني تعزيز قدرتهم في مواجهة الأمريكيين، ولكن الأمور ليست بهذه الدقة التي يعتقد الروس أنهم يمتلكونها. فإيران صارت هدفًا مستعجلًا للأمريكيين وإسرائيل وغيرهما من دول المنطقة، والمقصود بذلك خروج إيران من مناطق نفوذها في الشرق الأوسط وتحديدًا خروجها من سوريا.

السياسة الروسية في سوريا بدأت تحدث شرخًا في الموقف التركي، وتدفعه لاتخاذ مواقف تدرأ عنه خطر هذه السياسة، ولعل في هذا الشرخ ما يسمح للولايات المتحدة الأمريكية من التقارب والتقاطع بنقاط أكثر مع الأتراك، لدفعهم خارج علاقات حميمية مع موسكو، ولتحقيق هذا التقارب الأمريكي- التركي، يحتاج الأمريكيون إلى صياغة سياسة متوازنة لهم مع حليفهم التاريخي تركيا.

إن جوهر المخاوف التركية يتعلق بمسألة أمنها القومي، المتمثل بتهديدات إرهابية، يقول الأتراك إن مصدرها “حزب العمال الكردستاني” التركي الذي يتزعمه عبد الله أوجلان، المسجون في أحد سجونها، هذا الحزب ينشط بالتعاون مع حزب “PYD” الكردي- السوري. هذه المخاوف التركية يجب أن يكون لها صدى عملي في السياسة الأمريكية، وهذا يعني مزيدًا من الضغوط على “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) لإجراء مفاوضات مباشرة بين “PYD” وتركيا.

إن تركيا تدرك معنى خسارة إدلب لمصلحة النظام السوري وحليفه الروسي، فهذه الخسارة تعني ببساطة إضعاف الدور التركي في الحل السياسي المقبل في هذا البلد، وإضعاف ركائز المجال الحيوي التركي في المنطقة العربية. إضعاف هذا الدور يعني تبديد كل الجهود التركية التي عملت عليها السياسة التركية طوال زمن الصراع السوري، الذي لا يزال جاريًا حتى اللحظة، وهو أمر لا يمكن أن تذهب إليه السياسة التركية المدركة بعمق لتعقيدات الصراع في سوريا وعليها.

وفق هذه التقديرات، يمكن القول إن الأتراك يستطيعون لي الذراع الروسية في إدلب، إذا ما ذهبوا مع الأمريكيين بتقاطعات أوسع من قبل، هذه التقاطعات يمكن أن تشمل تسليح فصائل المعارضة العسكرية بأسلحة نوعية تساعد في التخفيف كثيرًا من فعالية سلاح الطيران الحربي للروس وللنظام، هذا التسليح يجب أن يكون تحت سلطة الضبط التركي له، كي لا يخلق هواجس أمريكية أو هواجس لدى مجموعة التحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة.

إذًا، الاتفاق الدولي على فتح الطريقين “M4″ و”M5” لا يجب أن يتحقق وفق الرؤية الروسية باستعادة إدلب لمصلحة النظام السوري ومصلحتها، وهذا يتطلب إعادة خلط أوراق التحالفات بالنسبة للأمريكيين ولتركيا، فتنفيذ موسكو لخططها في إدلب صار مكشوفًا ومفضوحًا أمام العالم، ولم يعد تسويق الحرب الروسية على أنها لمحاربة الإرهاب أمرًا مقبولًا، وهذا ما ذهب إليه بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي، حين قال إن “الأفعال الوحشية لنظام الأسد وروسيا وإيران وحزب الله وهجماتهم تجاه محافظة إدلب تحول دون تثبيت التهدئة في شمالي سوريا”، وهذا يعني أن الروس والنظام وإيران يتحملون وزر وحشية هجماتهم.

وبالتالي نحن نقترب من مفترق طرق على مستوى تغير التحالفات بين القوى المنخرطة في الصراع السوري، فهل نشهد قريبًا تآكل الدور الإيراني في سوريا؟ وهل سيبدأ تحجيم الدور الروسي، إذا ما توسع التحالف التركي- الأمريكي المتوقع؟ الإجابة عن هذين التساؤلين وغيرهما، سيحددها تطور التحالفات التي بدأ تغيرها حيال الصراع السوري.

اترك رد