انتهاكات يومية بحق البشر والشجر والحجر.. سرقات وتبيض أموال وتغيير ديمغرافي.. 3 سنوات من الاحتلال التركي لعفرين والمجتمع الدولي “صُمٌّ بُكْمٌ”

يقول المثل الشعبي: “اثنان يأتيان بالموت: الأرض والعرض”.. فالأرض غالية ليس من السهل التفريط فيها مهما كان الثمن غاليا.
لم يكن هيّنا على أبناء عفرين التفريط في أرضهم بعد أن اغتصبت من قبل الفصائل الموالية لتركيا والجيش التركي، كان يوما أسود ذلك الموافق 18 مارس/آذار 2018، يوم لن ينساه أبناء هذه المنطقة بعد أن أصبحت منطقتهم مرتعا للجماعات الموالية لأنقرة وملجأ للجيش التركي الذي سعى إلى تهجير أبنائها والسيطرة على أراضيهم وإحداث تغيير ديمغرافي فيها.

دفع الغزو التركي لمنطقة عفرين شمال سورية إلى اضطرار مئات الآلاف من أهلها -أي أكثر من 310 آلاف “بنسبة 56%” من الأهالي إلى النزوح والهروب من بطش الجماعات المسلحة الموالية لتركيا، تاركين أغراضهم وممتلكاتهم نجاة بأرواحهم.
ومن اختار المكوث بعفرين من أبنائها رافضاً للتهجير، طالته يد الظلم والتنكيل والاعتقال وعانى شتى أنواع الانتهاكات، فعمليات الاعتقال مستمرة، والخطف بهدف الفدية متواصل، ومصادرة المواسم قائمة، والاستيلاء على المنازل والمحال والسيارات بات خبزا يوميا، وخطف النساء مسلسل درامي متواصل في إطار قانون الغابة الذي تشرف عنه أنقرة، والذي يهدف بشكل رئيسي إلى دفع من تبقى من أهالي المنطقة للخروج من مناطقهم بغية استكمال عملية التغيير الديمغرافي التي تسعى لها تركيا.

وتشتهر مدينة عفرين بثرواتها الطبيعية الهائلة، حيث تُعرف بزراعتها المتميّزة، وهي المصدر الرئيسي لدخل أغلب أبنائها، حيث تأتي الزراعة في المقام الأول لدى السكان المحليين وتسهم في الإنتاج المحلي بنسبة 70% من إجمالي إيرادات المنطقة، وفق الأمم المتحدة، وتتوزع المساحات إلى أراضٍ قابلة للزراعة وهي مستثمرة بالكامل، وأخرى غير قابلة للزراعة على شكل مروج وغابات وتجمعات سكنية ومنشآت اقتصادية، تستغلها الفصائل الموالية لتركيا بشكل شبه كامل.
كما تمتاز بأشجارها المثمرة كاللوز والسفرجل والتين والمشمش والرمان والتفاح والفستق الحلبي وعلى رأسها طبعاً الزيتون، إضافة إلى أنها تعدّ وجهة سياحية بطبيعتها الجبلية ما جعلها مقصدا لسكان الشمال السوري قبل عام 2011، وبالتحديد سكان محافظتي حلب وإدلب.

وتتميّز عفرين أيضا بمواقعها الأثرية التي تعود إلى عصور مختلفة، وأبرزها مدينة “النبي هوري” وتبعد عن مدينة عفرين نحو 23 كلم، كما تضم “قلعة سمعان” الواقعة جنوب المدينة على بعد 20 كيلومترًا في القسم الجنوبي الشرقي، وتضم كنيسة مار سمعان التي كانت من أكبر كنائس العالم، إضافة إلى مناطق “جبل شيخ بركات” وجبل “برصايا”، ومدينة عين دارا الأثرية التي تتكون من آثار ومعبد يحتوي على تماثيل مختلفة، وما سبق من وصف لعفرين وما تشتهر به لعله يثبت أسباب من تلك التي دفعت القوات التركية والفصائل الموالية للسيطرة عليها بذريعة “محاربة الإرهاب”.
بدوره يواصل المرصد السوري لحقوق الإنسان منذ اليوم الأول للعملية العسكرية التركية برفقة الفصائل “غصن الزيتون” وحتى يومنا هذا على رصد وتوثيق الانتهاكات المرتكبة من قبل هؤلاء بحق البشر والحجر والشجر، عبر أخبار وتقارير يومية تتحدث عن المأساة الإنسانية بحق الأهالي وممتلكاتها وخيرات عفرين، حيث وثق المرصد السوري استشهاد 612 مواطن كردي في عفرين بينهم 89 طفل و78 مواطنة في انفجار عبوات وسيارات مفخخة وتحت التعذيب على يد فصائل عملية “غصن الزيتون”، وفي القصف الجوي والمدفعي والصاروخي التركي، وفي إعدامات طالت عدة مواطنين في منطقة عفرين، وذلك منذ الـ 20 من كانون الثاني / يناير من العام 2018 وحتى يومنا هذا.

كما وثق المرصد السوري منذ السيطرة التركية على عفرين وحتى مساء 17 آذار/مارس 2021، اختطاف واعتقال أكثر من 6850 من كورد عفرين، من بينهم 1100 لا يزالون قيد الاعتقال، فيما أفرج عن البقية بعد دفع معظمهم فدية مالية باهضة، يفرضها عناصر مايعرف بـ ” عملية غصن الزيتون”.
في حين تشير إحصائيات المرصد السوري لحقوق الإنسان، إلى توطين أكثر من 4070 عائلة من محافظات سورية أخرى في عفرين، بعد أن هُجروا أيضاً مختلف المحافظات وأجبروا على النزوح، وذلك في إطار التغيير الديمغرافي من قبل الحكومة التركية، بعد الاتفاقات الروسية-التركية التي أفضت إلى تسليم عفرين للأتراك مقابل سيطرة النظام على الغوطة الشرقية.

وتحدث المرصد السوري منذ احتلال عفرين عن إقدام مجموعات عسكرية من الفصائل الموالية لأنقرة على تجريف محيط “المدرج الروماني” عند قلعة النبي هوري في ناحية شران بريف عفرين، باستخدام الآليات الثقيلة، بحثًا عن لقى أثرية، حيث تقوم بتلك العمليات على مرأى ومسمع من القوات التركية، والجدير بالذكر أن منطقة النبي هوري سبق أن تعرضت إلى عمليات حفر ونبش من قِبل جميع الفصائل الموالية لأنقرة بهدف البحث عن الاثار والدفائن.
وتسعى تركيا وفصائلها في عفرين إلى طمس الهوية الكردية التي تمتاز بها تلك المنطقة، ما أثار غضب الأهالي الذين هجّر أغلبهم من بيوتهم بعد أن باتت مرتعا للفصائل، حيث تحدثت تقارير للمرصد السوري لحقوق الإنسان عن سبي النساء وعمليات اغتصاب وقتل وتنكيل إلى جانب تفشي ظاهرة السرقات للممتلكات الخاصة والعامة وفرض إتاوات، إضافة إلى إحراق مساحات من الأراضي الزراعية وقطع المياه عن أهالي المنطقة مرارا، كآلية ضغط لتسهيل تهجيرهم وإعادة توطين مهجرين ونازحين فيها.
وعلى غرار ما قام به تنظيم الدولة الإسلامية في منطقة تدمر حيث نهب وكسّر الآثار التي تمثل رمزا ثمينا بالنسبة لسورية، أقدمت الفصائل الموالية لأنقرة في عفرين على نفس الفعل الإجرامي بنية طمس هوية تلك المنطقة ورموزها ومميزاتها التاريخية التي تعتبر مناطق سياحة ترفيهية.
وللتذكير، كان المرصد السوري قد تحدّث العام الماضي عن عمليات سرقة وسلب ونهب ممنهجة لآثار عفرين، مقابل مبالغ مالية ضخمة، حيث أكدت مصادر المرصد أن الفصائل الموالية لتركيا أطلقت أيدي المنقبين عن الآثار في عفرين مقابل مبالغ مالية ضخمة، وأفادت المصادر بأن قطعاً أثرية تم العثور عليها في موقع النبي هوري أو(سيروس) أو(قورش) والتي تعود إلى عدة حضارات أقدمها من الفترة الهلنستية عام 280 ق.م جرى سرقتها، كما أن عمال التنقيب استخدموا آلات للحفر وأجهزة متطورة للكشف عن أماكن تلك القطع الأثرية، وقد عثر المنقبون على لوحات فسيفسائية تم تهريبها إلى تركيا عبر تجار بتسهيلات مشتركة من القوات والفصائل المسيطرة على تلك المنطقة.
ولا يمكن الحديث عن ذكرى أليمة كاحتلال عفرين من قبل تركيا إلّا ويجب التذكير بالانتهاكات الجسيمة التي قام بها الجيش التركي والفصائل السورية الموالية له في تلك المنطقة المهمة، حيث عمد هؤلاء إلى شن حملات اعتقالات عنيفة طالت الكهل والشاب والشيخ والطفل القاصر والنساء بمن فيهن الحوامل.
وشملت الانتهاكات اعتقالات تعسفية واختفاءً قسريا ومصادرة ممتلكات وأعمال نهب جرت برعاية وحماية القوات المسلحة التركية..
في وقت اتهمت فيه منظمة العفو الدولية أردوغان رأسًا بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في عفرين عبر قواته المتمركزة هناك، داعية أنقرة إلى وضع حد “للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان” في عفرين التي تعتبر المعقل السابق لمقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية في شمال سورية، متهمة تركيا بـ”غض الطرف” عن هذه التجاوزات.
وكان المرصد السوري لحقوق الإنسان قد أشار بدوره، في تقارير عديدة، إلى استيلاء الفصائل المدعومة من قبل تركيا على مدارس في عفرين، الأمر الذي حرم آلاف الأطفال من مواصلة دراستهم، إضافة إلى تغيير أسماء المعاهد والمستشفيات بأسماء لشخصيات تركية وإجبار الأطفال على تعلّم اللغة التركية وإدراجها كلغة رسمية إلى جانب اللغة العربية، بالإضافة إلى السياسة التركية المتبعة لإحداث تغيير ديمغرافي.
وتحدث المرصد عن تشكيل محاكم صورية تقوم بطلب أوراق ثبوتية تتعلق بملكية العقارات في منطقة عفرين ومن لا يمكنه إثبات ذلك يتم عملية الحجر على ممتلكاته ومقتنياته الشخصية، وبيعها في مزاد علني.
وعمدت الفصائل الموالية لأنقرة إلى تحويل عفرين وريفها إلى أرض خصبة لعمليات “تبيض الأموال” بضوء أخضر وعلى مرأى الأتراك المتواجدين بقوة في عفرين كالولاة والضباط والقيادات، وتجري عمليات التبيض بتسهيلات من الفصائل ولاسيما القادة منهم الذين يشاركون بتبيض أموالهم أيضاً التي جمعوها من سرقة ونهب ممتلكات أهالي عفرين المهجرين منها والصامدين فيها، بالإضافة لنهب المرتزقة الذين ذهبوا إلى أذربيجان وليبيا، ولعل قائد فرقة “سليمان شاه” محمد الجاسم المعروف بـ “أبو عمشة” خير مثال على ذلك، وهو الذي حول ناحية الشيخ حديد إلى مملكة خاصة به ونصب نفسه سلطان على مئات العناصر التابعين له، وافتتح مول تجاري ومقهى ومشاريع أخرى بدعم تركي بعد سرقة أموال الأهالي وممتلكاته والاحتيال على عناصره الذي أرسلهم إلى ليبيا وأذربيجان والبالغ عددهم 1250 فقط في ليبيا، إذ عمد إلى اقتطاع مبالغ تتراوح بين 300 إلى 600 دولار من رواتبهم الشهرية لكل عنصر، وأبرز مشاريعه الأخيرة كانت بناء مشفى على قطعة أرض قام بالاستيلاء عليها في الشيخ حديد وشيدها بأموال مسروقة، ووضع حجر أساسها رئيس الائتلاف السوري المعارض نصر الحريري بتاريخ 16 شباط/فبراير 2021، بعرض عسكري آثار سخرية المتابعين ورواد التواصل الاجتماعي، والكثير شبه العملية بما يفعله النظام السوري بمثل هذه الحالات من عروض عسكرية وما إلى ذلك.
وزار وفد من “الائتلاف السوري المعارض والحكومة السورية المؤقتة”، مقر لفرقة السلطان سليمان شاه ضمن منطقة عفرين بريف حلب الشمالي الغربي، في إطار الجولة التي قام بها الوفد في منتصف الشهر، حيث التقى نصر الحريري متزعم الائتلاف وسليم ادريس “وزير الدفاع” وشخصيات أخرى بالمدعو محمد الجاسم “أبو عمشة” قائد فصيل سليمان شاه، في الوقت التي تشهد عفرين انتهاكات يومية بحق من تبقى من أهلها الذين رفضوا التهجير، فعلى الرغم من تشكيل ما يسمى “لجنة رد المظالم” لإعادة الحقوق لأهلها في عفرين وتزعم نصر الحريري للجنة وإظهارها أنها أعادت الكثير من الحقوق، إلا أن الانتهاكات تتواصل بشكل يومي، ولم تقم لجنة رد المظالم بشيء يذكر سوى أنها أكدت على ما أشار المرصد السوري إليه مراراً وتكراراً بوجود انتهاكات يومية ترتكب بحق السكان الأصليين لعفرين.
وكان الجيش التركي قد سارع ، منذ 8 أبريل 2019، إلى إقامة جدار عازل حول محيط مدينة عفرين، ما أثار غضبا في المنطقة وتنديدا دوليا.
لطالما ندّد المرصد السوري بعملية احتلال عفرين وطالب بإخراج القوات التركية والفصائل الموالية لها التي تدّعي حماية المنطقة، مشددا على أن السكوت عمّا تقوم به الفصائل الموالية لتركيا يرتقي إلى جريمة ضد الإنسانية.
كما كانت مواقف المرصد واضحة بشأن تطهير عفرين وغيرها من المناطق المحتلة من الفصائل المسلحة لضمان وحدة الأرض السورية التي انتهكت من قبل الأتراك والإيرانيين والروس والقوى الأجنبية الأخرى.
3 سنوات على احتلال تركيا لـ”عفرين” وسيطرة الفصائل الموالية لها على كامل المنطقة، ولا تزال الأوضاع الأمنية متردية وسط انتهاكات لا تحصى ترتكبها الفصائل الموالية لـ”أنقرة” وتعامي عن عمد من جانب السلطات التركية عن انتهاكات تلك الفصائل، وعلى الرغم من كل تلك الانتهاكات والتحذيرات من جانب المرصد السوري لحقوق الإنسان ومنظمات حقوقية دولية أخرى، فإن العالم لم يحرك ساكنا حتى الآن لإنقاذ مواطني “عفرين” من الانتهاكات التي يتعرضون لها، وحماية آثارها وحماية المنطقة بالكامل من عمليات التغيير الديموغرافي التي تجري هناك.

المرصد السوري لحقوق الانسان

https://kalamfisyassa.com

اترك رد