سليم ضيف الله يكتب: عندما تكشف تغريدات حمد بن جاسم رعب الدوحة من إغلاق قاعدة العديد
بين الفينة والأخرى يجود “إتش بي جاي” لقب الشهرة في أروقة وكواليس مسارح الصفقات الكثيرة التي تميز بها على امتداد العقدين الماضيين، بما تيسر من تحليل، أشبه بتحليل دم، بعيداً عن العمق السياسي والاستراتيجي الذي يُفترض أن يرافق تفكير رجل الدولة، أو منطق المسؤول.
وفي آخر غارات الرجل التويترية، حمل الشيخ حمد بن جاسم على الولايات المتحدة، متنبئاً بخسارتها مكانتها الدولية ومكاسبها السياسية، بسبب تبنيها سياسة التخلص من القواعد العسكرية المنتشرة في أنحاء العالم.
وبالتأمل في مثل هذا الكلام، الذي يكشف ما يكشف من معرفة سطحية، ومن نفس الابتزاز، وربما بعض الحسرة أيضاً، يتضح أن الرجل الذي كان يوماً على قمة السلطة في قطر قبل إزاحته، أبعد ما يكون عن المعرفة بالماضي السياسي، وبالتاريخ الأمريكي الحديث، القائم منذ تأسيسها على “الانكفاء” ما لم تكن مصالح الولايات المتحدة في خطر، أو مصالح حلفائها محل تهديد، وهو المبدأ الذي قامت عليه العقيدة العسكرية والسياسية الأمريكية في واشنطن، منذ التأسيس، وامتد حتى قرار ويلسون بالدخول في الحرب العالمية الأولى إلى جانب الحلفاء ضد ألمانيا والنمسا والدولة العثمانية.
وذات القرار الاستراتيجي المؤسس، تكرر فور انتهاء الحرب لتعود أمريكا إلى سيرتها الأولى، ولولا الهجوم الياباني على بيرل هاربور، والضغوط الكبيرة من أوروبا، والمصالح الاقتصادية الضخمة التي استشفها روزفلت الذي كاد يخسر مستقبله السياسي بسبب دعوته إلى الدخول في الحرب العالمية الثانية أيضاً انتصاراً للديمقراطية الغربية ضد النازية، لا بحثاً عن تدخلات خارجية، لظلت أمريكا بعيدة عن مشاكل العالم ربما إلى يوم بن جبر هذا.
ولكن الشيخ بن جبر لم يكن ليشنّ مثل هذه الغارات، في هذا التوقيت بالذات، لو لم تستشف قطر، اليوم في ملامح هذه السياسة الأمريكية التقليدية، بعض الخطر على مصلحتها، وعلى قاعدتها الأمريكية فيها، وهي التي سلمت منذ عقود بأن توجهاتها السياسية والايديولوجية محمية في ظل قاعدة العيديد، وفي ظل الحليف العثماني الجديد رجب طيب أردوغان، الذي أصبح يقسم وقته بين أنقرة والدوحة في الأعوام الثلاثة الماضية، ما يعني أنها تشعر اليوم فعلاً بأكبر تهديد ليس سياسياً فقط بل ووجودياً أيضاً لها ولنظامها، وهي التي تشعر اليوم أكثر من أي وقت مضى، أن ثقباً أسوداً هائلاً بدأ يقترب منها ومن سمائها.
إن تغريدات الشيخ حمد بن جاسم بن جبر، قبل أيام قليلة، تكشف على الأقل معطيين مهمين، سياسياً واستراتيجياً.
فعلى المستوى السياسي، يبدو أن الفزع سيطر على الدوحة التي تورطت في ما أسماه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حروب بلا نهاية، مع مراعاة الفوارق بين حروب ترامب، وحروب بن جبر طبعاً، فإذا كان الأمريكي يبحث عن حقن دماء مواطنيه في الخنادق وساحات القتال الكثيرة، التي ارتفع فوقها العلم الأمريكي، فإن حروب بن جبر على تويتر، وعبر الجزيرة، والقنوات التركية، وجحافل الإخوان، تبدو وفق عرف العسكريين، لا تناظرية بكل المقاييس.
أما استراتيجياً فيعترف مثل هذا “التحليل” بأن حروب قطر الوهمية، مقارنة مع حروب واشنطن الحقيقية، لا تعتمد في الواقع إلا على ما تؤمنه لها قاعدة العديد، وعمائم الانكشارية الجديدة، لذلك فإن أي تفكير أو رجع صدى، عن مراجعتها أو إعادة النظر فيها، بما تقتضيه المرحلة الجديدة، والتحديات المقبلة، الأمر الذي يعني أن مغامرة قطر وصلت إلى منتهاها، وخاتمتها، وهو ما لايبدو أن ساستها وقادتها في وارد التفكير فيه، خاصةً أن دفتر الشيكات يتجدد باستمرار وبسخاء أيضاً لتمويل كل من ترى فيه الدوحة، عامل قوة ودعم لسياستها.
وعلى هذا الأساس، مثلاً انخرط رئيس الوزراء القطري السابق، في “تفكير” غريب عن انسحاب الشركات الأمريكية مع شاحنات وطائرات العم سام، من قواعده، ومراكز انتشاره حول العالم، وكأن إكسون موبيل، قديماً أو أبل حديثاً، من المرتزقة وصائدي الفرص، على ظهر دبابة أو في حمى مدفع.
إن نظرة الشيخ بن جبر، لا تكشف في الواقع، سوى ضيق أفق، وسطحية استراتيجية، لا تتجاوز في مداها، صفقة في نيويورك، أو مكسباً في نيويورك، واستراحة محارب، في الوجبة أو الوكرة، على طريقة رئيس الوزراء السابق، الذي استنزف خزينة الدوحة، وامتص دم شعبها المنكوب بأمثاله، وأنفقه على صفقات فاسدة ورشاوى، طالت أصقاع الأرض جميعها.
إن منطق الرجل على غرابته، مفهوم، في ظل الرعب الذي يعصف بالدوحة هذه الأيام، من الفراغ الاستراتيجي المحتمل، كما تراه قطر، الذي قد يتحتم عليها مواجهتها قريباً إذا قررت واشنطن مثلاً التخلي عن العديد، ضمن القواعد التي ستغادرها، كما يجب أن يُفهم من كلام بن جبر، الذي لم ير في الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، إلا الجانب العسكري في تاريخ السياسة البريطانية، فلو لم تتخل لندن، عن قوتها العسكرية حسب هذا المنطق “الجبري” أي الحتمي، لظلت بريطانيا امبراطوية عظمى كما عرفها القرنان الثامن عشر والتاسع عشر، بعيداً عن حركة التاريخ، والتطور الانساني، ومقتضيات التحول البشري، بما في ذلك ظهور بلاده نفسها على خارطة العالم والأحداث.
ويُحذر بن جبر على هذا الأساس، من تكرار المأساة التاريخية، التي ستعصف بالولايات المتحدة، إذا تخلت عن حضورها العسكري المباشر في عدد من دول العالم، مثل قطر، بما أن الدوحة مثلاً لن تشتري من واشنطن سلاحاً متطوراً بعد رحيلها، ولا دول العالم الأخرى أيضاً التي ستستلهم هذا المنطق وتسير في ضوئه.
إن “بُعد” النظر في مثل هذه التغريدات التي تمخضت عن عقلية بمثل هذا “التألق”، تجعل المرء، يتساءل فعلاً عن طبيعة العصر الذي يسير في ركابه مسؤول، ولو كان سابقاً، مثل الشيخ بن جبر، ليرى الأمور بمثل هذه البساطة وبهذا المنطق، إذ يبدو أنه في الوقت الذي تساير فيه دول، عصر الفضاء، والتخطيط للوصول إلى المريخ، لا يزال الرجل يحاول اللحاق بركب قيصر أو كسرى، في قطيعة تاريخية مثيرة للأسى والشفقة في آن، فمن أبجديات العمل السياسي أن العلاقات بين الدول مصالح مشتركة، أو متضادة، ونقاط لقاء وتباعد في منتصف الطريق، وربما في بدايته، أو نهايته، ولكنها حتماً ليست راعياً مسلحاً برشاش، أو ببندقية يصوبها على كل من أراد اختبار قوته، أو إصراره على قيادة العالم، أو “القطيع”، بالعودة إلى تغريدات بن جبر العجيبة، التي تُذكر في كثير من منعطفاتها بالعراف الفرنسي الأشهر والمنجم الأكبر في تاريخ الكوارث والأهوال البشرية، نوستراداموس.
نقلا عن :موقع 24