سوريا ولبنان معا نحيا أو نموت
منذ انفصالهما في خمسينيات القرن الماضي لم تستطع الحروب الأهلية والجماعات المحلية في البلدين فك الروابط القدرية التي تربط الشعبين والبلدين، فما يعانيه اللبناني ينتقل عبر الهواء إلى سوريا والعكس صحيح.
لن تكون آثار كارثة انفجار الميناء في بيروت مقتصرة على بعض الخسائر البشرية المباشرة جراء سقوط ضحايا أو أضرار مادية للبنانيين أو سوريين يعيشون في لبنان، بل إنها تلامس حيز السياسة والاقتصاد والعسكر وتؤذن بمآلات لا يمكن التكهن بمداها في البلدين.
جهل النخب السورية واللبنانية بانتفاء أية أهمية لتصريحاتهم المثيرة للاشمئزاز من طرف جمهورهم أولا ومن الأطراف الدولية المؤثرة بما في ذلك داعميهم، لا ينفي أن تلك النخب سيعاد تدويرها بما يتناسب المشاريع القادمة التي وصلت إلى مرحلة الحسم بعد الانفجار الأكبر في بيروت، لذا لجأ الأكثر فطنة بينهم إلى اختصار هذه التصريحات بجمل محدودة، فيما ذهب آخرون ومنهم صهر الرئيس ميشيل عون وزوج ابنته، المغرم بحسن نصر الله، إلى ابتزاز أوروبا بأفواج اللاجئين السوريين، نسجا على منوال أردوغان، فيما استخدم سياسيون لبنانيون آخرون الحادثة المأساوية لتأويل الحرب السورية لصالحه باعتبار أن حادثة المرفأ اللبناني جزء مكمل من تلك الحرب الأهلية المستعرة منذ ما يقرب من عقد في سوريا وبمشاركة لبنانية حسب الطلب، ذهب الرئيس السوري بشار الأسد بدوره إلى تأكيد تفاؤله المعتاد في قدرته وقدرة لبنانيه على بناء ما تم تدميره بأسرع وقت كما فعل في سوريا.
ليس مهما أبدا ما تصرح به النخب اللبنانية والسورية فهي وكما قال عنهم الرئيس الفرنسي أيمانويل ماكرون بدون مواربة: “فاسدون ولا يأبهون بمصالح شعوبهم”، فقد تسابقت القوى المتصارعة في الملعب السوري اللبناني إلى إعلان الخطوط الرئيسية لمشاريعها بناء على الحادث، فمن جهة أعلنت تركيا على لسان مستشار أردوغان أنها تريد الميناء ولسان حاله يقول نريد استعادة أملاك السلطنة العثمانية وكان أحد كوادر الاعلام الإخواني القطري، أحمد منصور، أكثر شجاعة من مستشار اردوغان حين ذهب بالأكاذيب حتى نهايتها واعتبر أن إنجازات حضارتهم العثمانية لا تخفى، مزيفا تاريخ صوامع الحبوب الموازية للميناء والتي بنيت بعد خروج العثمانيين بعقود، ردّها للعثمانيين الذين لم يتركوا أثرا طيبا يذّكر بهم، إلا إذا مشينا مع الإخوان المسلمين واعتبرنا أن خوازيق العثماني هي من الآثار التي تحن لها شعوب المنطقة الموبوءة بهم.
في الطرف الثاني، هبّ الإيراني وحسم الموضوع من طرفه، معتبرا إن إعادة إعمار لبنان بعد الحادثة هي مهمة إيرانية ولا يمكن النقاش في ذلك، كأن لسان حالهم يقول، “لا يعمّرها إلا من دمّرها”، خاصة أن طهران تعتبر بيروت إلى جانب بغداد ودمشق وصنعاء عواصم تابعة لها وهو ما تقوله الوقائع منذ زمن غير قليل.
الدمار الذي لحق بمرفأ بيروت لن يغير في النظام السياسي اللبناني شيئا، فتغيير الأنظمة هو آخر هموم القوى المتصارعة في الساحات السورية واللبنانية، بل العكس فإن وجود نظام فاسد وهش وفاقد لمقومات السلطة هو المطلوب من اللاعبين الأساسيين في ساحات الحرب السورية واللبنانية المستجدة، وأما الدول الغربية عموما وباريس وواشنطن على الأخص فلا يتذكرون بيروت ودمشق إلا كتتمة غير جاذبة لصخب الشرق الأوسط المتخم بالقتلة والفاسدين.
الهيئة العجوز المصابة بالقلق منذ زمن طويل، هيئة الأمم المتحدة، جددت قلقها المزمن وأعربت عن مخاوفها من صعوبة وصول المساعدات الإنسانية إلى دمشق في ظل بقاء بوابة واحدة على تركيا لنقل تلك المساعدات “الإنسانية” إلى شمال سوريا، ليذهب التفكير لدى البعض بإمكان فتح كوّة في جدار العزلة السوري والاعتماد على ميناء اللاذقية لنقل المساعدات إلى سوريا ولبنان، لكن المشكلة الأكبر أن ميناء اللاذقية هو أقرب ليكون منطقة نفوذ إيرانية إذا استطاعت حكومة إيران انجاز المهمة المستحيلة وهو إرضاء إسرائيل وروسيا بتنازلات تؤثر على تموضعها في الحلف التركي وعدوانيتها المستطيرة حيال المحيط العربي.
انشغال ذراع إيران، حزب الله، بتبعات تورطه في اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق، رفيق الحريري، يلقي بظلاله على الحزب الإيراني في لبنان وخاصة أن أصابع الاتهام تتجه مجددا للحزب الطائفي المنهك بجثث قتلاه العائدين من جبهات الحروب التوسعية الإيرانية في اليمن وسوريا والعراق وليبيا وأخرى على مدى النظر الإيراني، ناهيك عن وطأة الأزمة الاقتصادية اللبنانية وخفوت التمويل الإيراني على أثر مفاعيل الحصار الاقتصادي وتعثر إيران في إدارة ميليشياتها “العربية” في حروبها على أرض العرب.
يعلو صخب الإيراني والتركي في كل فاجعة تصيب دنيا العرب، صخبٌ ينطبق عليه المثل العربي:” كاد المريب أن يقول هذا أنا فخذوني” ففي الوقت الذي تحاول تركيا استكمال احتلال ليبيا وسوريا يدخل على الخط الساخن اللبناني محاولا المساهمة في حل أزمة حليفه الإيراني في ساحات الصراع الملتهبة “سوريا، اليمن، ليبيا، غزة” ووضع قدم لها في بيروت الآيلة للانهيار في كل لحظة، بينما تملك إيران من الوقاحة أن تقتل القتيل وتمشي في جنازته وتدعو الناس لعزائها والوقوف معها لاستكمال مهام القتل الموكلة لها.
يروي تاريخ وواقع بيروت ولبنان عموما، عن عروبة لا تخفي نفسها رغم تنكّر معظم نخبها مستندين على وهم تفوّق وريادة لا يصدقهما حتى من يتبجح بهما، عروبة لا يمكن أن تختفي تحت ركام الأوحال والقذارات التي ألحقت بالجسد اللبناني من فاقدي الضمير والانتماء، عروبة تعبّر عن نفسها بصوت خافت حتى اليوم ولكنها المعبر الوحيد لحل ينقذ لبنان الآيلة لانهيار مترافق مع الانهيار السوري القادم حال انتصار الحلف الإيراني التركي المستند على جذع فرية تحرير فلسطين.
أولا وأخيرا يبقى السؤال المطروح: من الذي يريد إنهاء لبنان المنكوبة؟ من الذي وضع كل هذه “المفرقعات” و”المتفجرات” في ميناء بيروت ومن الذي فجّرها؟ من يحكم الميناء؟ من يحكم لبنان؟ يعرف الجميع أن حاكم لبنان هو حسن نصر الله بقوة السلاح الإيراني والعقيدة الإيرانية وحليفه هو أردوغان التركي المستند على ميليشيات الإخوان وتوابعهم من إرهابيي الأرض وخونة الأوطان ولا شيء غير ذلك، فهل سيستيقظ اللبناني أم أنه عاجز عن مواجهة الضباع التي في طريقها للقضاء عليه نهائيا؟!