غبت عن الوعي، ولم أصح إلا وأنا في المستشفى ممددة على السرير الأبيض . ومعصماي ملفوفان بالشاش المبقع بالدم . نصحتني صديقة أثناء زيارتها لي بالتعرف على كاهن معروف هو الأب( ف) الهولندي الأصل ، صاحب مشروع “الأرض” ورئيس دير الآباء اليسوعيين ، اعطتني عنوانه، ولم يمض يومان على خروجي من المستشفى حتى كنت أمام قامته الفارعة النحيلة ، أتطلع بأمان إلى عينيه المحفورتين تحت حاجبين أشعثين يخبئان نظرات مغسولة بالصفاء لناسك يتأمل أسرار الكون في أعلى جبل يطل على واد عميق . فارت روحي مثل صفيحة مملوءة بالماء المغلي . شيء ما كان يسلق داخلي . إنها المرة الأولى التي أدخل فيها معبدا ، وأقابل رجل دين وجها لوجه . القيت السلام عليه بخجل فالتفت إلي بهدوء ووقار، ورأى دموعي المحصورة وراء سدين من الغشاوة تسيلان قليلا ثم تنفجران لحظة وقعت عيناه على معصمي الملفوفين كأنهما طرفا حيوان أصيبا بطلق ناري من صياد عابث ، نهض واقفا وحياني كما يحيي رجال الدين البوذيون ، بتقريب الراحتين إلى بعضهما حيث تكونان بمستوى الصدر . جلست قبالته بأمومة محطمة. عرفته على نفسي ، هز رأسه مرحبا ودون أن ينطق بكلمة واحدة ، سردت معاناتي كلها من مقتل أختي حتى سبب وجودي هنا. وأدركت وقتها أنه سيكون أبي الروحي وملاذي الاول والأخير ، وسيحل كليا مكان أبي الذي رماني في مصح دير الصليب اللبناني بطلب من إخوتي المتواجدين في أمريكا بعد موت أختي مباشرة .
ضياع في استنبول١٩
19