علي سالم عن رحلته إلى إسرائيل “الجزء الأول”

مصري قادم من مصر

الطريق من الفردان إلى العريش طويل وموحش، راديو السيارة لايعمل، وحدي لا يصاحبنی سوی اضطرابی ولا يؤنسني سوى صوت الموتور المزعج. أجزاء طويلة من الطريق وأنا وحدي، لا سيارة تتخطاني ولا أخرى تقابلني. الطبيعة جافة، لن يسعفني أحد إذا تعطلت هنا، لا أمل حتى في وجود قاطع طريق.

الجزء الثاني من رحلة علي سالم إلى إسرائيل
الجزء الثالث من رحلة علي سالم إلى إسرائيل

أنا مجهد، منذ الصباح وأنا أتحرك هنا وهناك لاستكمال ما ينقصني غيرت زيت الموتور، ضبطت هواء الإطارات، القاهرة مزدحمة، ركنت السيارة وبها حقائبي في الجراج المواجه لأتيليه الكتاب والفنانين بوسط المدينة وذهبت لشراء بدلة، أنا في حاجة أيضا لعدة للسيارة، لا داعی، لن أستطيع استخدامها إذا تعطلت، على الأقل أشتري مثلث أحمر، أضعه على مقربة من السيارة لتنبيه الآخرين، لاداعی، قلبي يحدثني أن سيارتي لن تتعطل ، لابد أنها على وعي بظروفي الحرجة، كما أنني أثق بالأسطى عثمان الميكانيكي، الأب الروحي لسيارتي النيقا الخضراء، التي أعتبرها أقوى ما تبقى من الاتحاد السوفيتي، قام عثمان بعمل عمرة كاملة للموتور، طلبت منه أن يستبدل أي جزء فيها يشك في صلاحيته.

– عثمان.. أريدك أن تؤهل هذه السيارة لمشوار طويل..

 * إلى أين أنت ذاهب؟

– إلى إسرائيل.

*****

في نهاية عام 1993 وبعد إعلان اتفاقية أوسلو مباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين أعلنت أنني أفكر في زيارة إسرائيل بسيارتي لتأليف كتاب يجيب عن سؤالين: من هم هؤلاء القوم؟ وماذا يفعلون؟

ونشرت مقالا في مجلة الشباب بعنوان : السلام الآن. كنت أرى أن الاتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين يشكل لحظة نادرة في التاريخ، إنها لحظة اعتراف الأنا بالآخر، أنا موجود، وأنت أيضا موجود، الحياة من حقي وهي أيضا من حقك.. هو طريق شاق وطويل محطته النهائية، الحرية، وحقوق الإنسان الفرد، وهو بالطبع لن يكون مفروشة بالورود ولكن بالنضال والصبر. غير أن الحديث عن السلام ليس كافيا الصنعه، لابد أن نتقدم نحن لتجسيده بالفعل وليس بالكلمات.

أنا مجهد جدا ومازال الطريق إلى العريش طويلا، خرجت من وسط القاهرة في الثالثة بعد الظهر وتمكنت من الوصول إلى أول طريق الإسماعيلية بعد ساعة كاملة، حصلت على تأشيرة الدخول إلى إسرائيل في دقائق من السفارة، سألني يعقوب سيتي الملحق الإعلامي: هل تريد أن تزور جهة معينة أو شخصيات معينة؟

– سیدی، سأسافر بسیارتی وفي جيبي نقودي، أريد أن أرى إسرائيل بعيني أنا.

على الأرجح هو يهودي من أصول مصرية فقد تكلم معي بالعامية المصرية، من الواضح أنه لم يتعلمها بل تربى عليها، عرفت فيما بعد أنه من أصول عراقية. غاب لدقائق ثم عاد ليقول: السفير في اجتماع الآن، أبلغناه أنك جئت للحصول على تأشيرة وهو يبلغك أنه يريد أن يراك الخمس دقائق بعد عودتك.

– بكل سرور.

* كما اتصلت بمنفذ رفح .. هناك مبلغ ستدفعه تأمينا للسيارة .

– كم؟

* عدة مئات من الدولارات.

في الغالب يعقوب فهم خطأ المبلغ المطلوب، اتضح أنه أقل من مائة دولار، لا أستطيع وصف القنصلية بالفخامة، ولكن أول انطباع لى كان سرعة الإيقاع، لقد غاب عني يعقوب عشر دقائق فقط كانت كافية الإعداد التأشيرة وإرسال ورقة للسفير داخل الاجتماع وتلقي الرد عليها بالإضافة للاتصال تليفونيا بنقطة الحدود في رفح وإجراء مكالمة سريعة معهم.

الإجراء الوحيد المطلوب من الجانب المصرى لخروج سيارة من الحدود المصرية هو الحصول على الاستمارة 126 من إدارة الجمارك. وهي استمارة تكتب بها كل تفاصيل السيارة، مع كتابة تعهد بأن تعود بالسيارة مرة أخرى أو تصبح مطالبا بدفع ثمنها للحكومة المصرية. . وثمن سيارتي كما حددته الجمارك هو 17 ألف جنيه.

سيارتي، اشتريتها بحر مالی، ولقد حصلت الحكومة المصرية الجمارك المفروضة عليها، هي سيارتي مثل بنطلوني وحذائي وساعتی، من حقي أن أذهب بها للجحيم وأن أفعل بها ما أشاء.

لا .. إنها جزء من الثروة القومية لمصر، هو إجراء متبق من الحكم الشمولي الذي يرى الأشياء والبشر جزء من الثروة القومية للحكومة، أقصد للدولة، أقصد للشعب. وهو في الغالب إجراء لضمان عودتك أنت، مازال معمولا به منذ ذلك الوقت الذي كان ذهابك فيه إلى المطار وركوب طائرة يتطلب موافقة رئيس الوزراء.

في طريقي لجمرك السيارات بمدينة نصر سرحت وأنا أقود سيارتی، فلم أتنبه لمدخل الكوبري الصحيح، بدأت أدور في الشوارع في حالة غريبة من السرحان، فشلت عدة مرات في اتخاذ الطريق المؤدي لمدينة نصر، هنا بدأت أتنبه للمقاومة العنيفة التي يبديها اللاوعي عندی المقاومة الرحلة. لابد أن جهازى النفسي والعصبي ممتلئان بالخوف والكراهية، بالوعي أنا أريد الذهاب إلى هناك، وباللاوعي أنا رافض الذهاب. هو تراث ثقيل بطول العمر من الكراهية والعداوة .

هذا هو ما جعلني أتمسك بالسفر بالسيارة . إذا سافرت بالطائرة فسأجد نفسي هناك فجأة، وأنا أخشى هذه الفجائية، هناك ضابط من حرس الرئيس السادات توفي بهبوط حاد في القلب بعد وصوله إلى القدس في المبادرة، واتفقت كل وكالات الأنباء على إخفاء الخبر. أنا أعتقد أن الوعي عنده فشل في إقناع اللاوعي بالواقع الجديد، كانت الكراهية بداخله أكبر من أن يروضها جهازه العصبي. |

سألني مسئول الجمارك: ماهي الجهة التي تعمل بها؟

– لا أعمل في أي جهة.. ولا أتبع أي هيئة.. أنا كاتب حر..

* بالطبع أنت تكتب في جريدة أو مجلة .

– نعم.. في مجلة كاريكاتير

*خلاص دعهم يكتبوا تعهدا بأنهم يضمنون عودة السيارة.

انصرفت حزينة من الجمارك، كيف أطلب من أصحاب المجلة أن يكتبوا تعهدا بضمان عودة سيارتي ؟ هذه مغامرتي وحدي، أتحمل وحدی مسئولیتی عنها.. ماهو الحل؟

لماذا تذهب لمسئول كبير؟ اذهب للموظف الصغير المختص بالعملية، اتضح أنه لا توجد مشكلة، المطلوب فقط هو أن أكتب هذا التعهد، حسنة هذا هو التعهد، ولكن لماذا قال لي المسئول الكبير ذلك ؟ لماذا طلب مني أن آتي بتعهد من جهة أو هيئة أو مؤسسة أو شركة؟

الواقع أنه من الصعب على القيادات الحكومية الاعتراف بأن هناك إنسانا فردا، الحياة ليست مكونة من أفراد وحقوق أفراد، بل هي معان كلية، وزارات ومؤسسات وإدارات وهيئات وموظفون، هم في النهاية تروس صغيرة تدور في الماكينة الكبيرة، من الصعب عليهم تصور أن الحياة ليست كلها قطاعا عاما، وبذلك تنتفي مسئولية الأفراد وتنعدم حريتهم بالإضافة طبعا لعدم تعاطفه مع فكرة ذهابي لإسرائيل، هو مثلى ممتلىء بالكراهية، ولكنه يتصور أنني في رحلة حب وليس في محاولة جادة للتخلص من هذه الكراهية، سألته: عندما أحضرهذا التعهد من إدارة المجلة، ألن تطلبوا مني خطاب ضمان مالي من البنك ؟

أجاب باقتضاب: هذا التعهد لاينفي أي إجراء آخر مطلوب.

الإجابة غامضة، هو لم يجب بنعم أو لا .. هو فقط حاول أن يوحی لي بأن مشكلتي كبيرة ومعقدة .. الواقع أنه ليس مطلوبة مني سوى هذا التعهد فقط.

كان الطريق موحشة وزادته الظلمة وحشة .. أنا مجهد ومازال الطريق إلى العريش طويلا.

***

العريش تقترب، هناك محطة بنزين في أول المدينة، أعدت ملء السيارة بالوقود، ثم واصلت طريقي، العريش تكاد تكون خالية من الغرباء في ذلك الوقت من السنة، صالة واسعة مضاءة لأحد الفنادق، هو فندق سميراميس، دخلت الفندق، طلبت أسرتي في القاهرة، ردت على ابنتي الصغرى: منی… أنا أكلمك من داخل مصر..

– من أين داخل مصر؟

* من العريش… غدا صباحا سأذهب إلى إسرائيل.

فصرخت: من غير ما تقول لنا؟

– أنا آسف… هأنذا أقول لكم… تأكدوا أنني بخير… اطمئنوا على.

فتمالكت أعصابها وقالت : طيب يا بابا … تروح وتيجي بالسلامة.

المكالمة التليفونية زادت من اكتتابي وجعلتني أكثرتوترة، أعرف أنني أسبب لبناتي ولزوجتي قدرا كبيرا من الألم والخوف، ولكني كنت على وعي بأن مصارحتهن بقرار سفری کانت ستسفر عن صدام عصبی يجردني في أفضل الأحوال من التماسك النفسي اللازم للرحلة . من الصعب، إن لم يكن من المستحيل أن نمضي إلى الأمام في هذه الحياة، دون أن نشعر من نحبهم بقدر من الألم.

تجولت في شوارع العريش بحثا عن صيدلية، اشتريت أدوات حلاقة ومعجون أسنان وفرشاة ، هل ينقصني شيء ؟ نعم … أقراص نوفلو المضادة للبرد، هي تريحنی بل إنني أستخدمها أحيانا كمهدئ. أنا جائع، هناك مقهى ومطعم متلاصقان على الشارع، تناولت عشائی، فول وطعمية، هناك جهازان للتليفزيون، وضعا متجاورين، تفصل بينهما عدة أمتار، أحدهما يعرض فيلم أجنبية والآخر برامج التليفزيون، الصورة سيئة في الفيلم وأشد سوء في البرامج، والصوت مشوش مرتفع … ضجيج … ضجيج حقيقى، والناس على الرصيف يحدقون في الجهازين في صمت مستمتعين بالضجيج.

شعرت بالرغبة في دخول الحمام، أجل ذلك إلى أن تعود إلى الفندق، الفندق قريب…لا… لن أستطيع، لحسن الحظ وجدت دورة مياه صغيرة في المطعم، دفعت الحساب وركبت سيارتي وأخذت طريقي إلى الفندق الذي يقع على بعد ثلاث دقائق أو أقل، مرة أخرى أشعر برغبة في دخول الحمام، أوقفت السيارة أمام الفندق واندفعت مسرعا إلى غرفتي، يا إلهي، إنني أكاد أفقد القدرة على التحكم في نفسی، ماذا أصابني؟ هل أنا مريض بالسكر؟ إنني أشعر بالرغبة في دخول الحمام كل عدة دقائق، حتى الآن لم يخذلنى عقلى ولم تخذلني سيارتي، هل سيخذلني جسمي؟ لا أعرف كيف نمت ولكني استيقظت عدة مرات لدخول الحمام … ماذا سأفعل غدا في الجمرك؟

في حوالي الساعة الحادية عشرة من صباح الخميس 7 أبريل 1994 اتخذت طريقي من العريش إلى رفح، أشعر بالعطش، معى زجاجة مياه في السيارة، اكتشفت أنني بعد أن أشرب أشعر برغبة حادة في التبول ..

الطريق من العريش ورفح طوله حوالي خمسين كيلومترا، قسمت الطريق إلى عدة حمامات، أقصد محطات، أمر طيب أن تختار المكان الذي يناسبك على الطريق وتحوله لحمام يستخدم لمرة واحدة ثم تواصل طريقك بارتياح. – أنت تقترب من الحدود… توقف عن الشرب..

* ولكني أشعر بالعطش، حلقی جاف.

– لن يقتلك إحساسك بالعطش… لابد أن تبدو متماسكة وطبيعية في الجمرك …

فجأة وجدتني أصيح: اسمع … تماسك، سامع؟ أنا أطلب منك أن تتماسك.

كنت أكلم جسمي، أنا أعرف أن هناك طاقة كامنة داخل الإنسان تظهر عندما يصرخ. هذا هو السر في الصرخات التي يطلقها مصارعو الكاراتيه وأبطال حمل الأثقال، لذلك بدأت أصرخ في جسمي بشراسة: اخرس… اعقل … امسك نفسك … خليك راجل… فاهم ؟… سامع؟… أنا لن أسمح لك أن تعطلني… فاهم … هيه … آه … عا… عو…

من الغريب أنني بدأت أشعر بعدها أنني أكثر تماسكا ورباطة جأش.

ها هوذا السلك الشائك المحيط بالجمرك عند رفح، توقفت عند البوابة …

– الباسبور من فضلك.

*اتفضل…

– وحدك …؟

*نعم ….

في الساحة الكبيرة للجمرك، كانت هناك سيارات أتوبيس ضخمة، لقد أنزلت السياح في الجانب المصرى، وستتولى أتوبيسات أخرى نقلهم إلى الجانب الإسرائيلي. أمام شباك الجوازات ملات بطاقة المغادرة وأعطيت الجواز للضابط المختص…

– اتفضل اقعد شوية …

في صالة الجمرك الداخلية الواسعة جلست على أحد المقاعد، شاب أسمر يرتدي قميصا وبنطلون: أهلا يا أستاذ على … ما تيجي تشرب عندي قهوة.

في مكتبه شربت زجاجة مياه غازية وتحدثت معه عن السبب في زيارتي لإسرائيل، أدار الحوار معي بشكل ودي ونبرة لا اتهام فيها أو شلك، وقد ابتعد بذاته عن الموضوع تماما، أخذ يكتب بسرعة عناصر الحوار في ورقة أمامه، لم أشعر بالضيق، فأنا أقدر أن اليقظة الأمنية ستظل نشطة على الحدود المصرية الإسرائيلية لسنوات طويلة قادمة، ليس لأننا في حالة حرب معهم، وليس لأن اتفاقيات السلام التي وقعناها معهم (كده وكده ) بمعنى أنها خطوة تكتيكية تمهيدا لتنفيذ استراتيجية نهائية وهي القضاء عليهم أو علينا، ولكن لأن احتمالات إفساد السلام واردة من عناصر عديدة على الجانبين.

كثيرون من موظفي الجوازات وجهوا لى نفس السؤال، ولكني أعتقد أن ذلك كان بدافع من الفضول وليس تأدية الواجب الأمني، غرابة الرحلة أيقظت فيهم المزيد من اليقظة والحذر. ضباط كثيرون خرجوا من مكاتبهم ليلقوا نظرة على ثم عادوا إلى مكاتبهم، في النهاية ظهر أحد الجنود حاملا بطاقة المغادرة الخاصة بي: أستاذ على … أنت رايح إسرائيل ليه ؟

– عاوز أشوفها..

أشعرته إجابتي بالارتباك، صمت لحظات وهو يفكر في حيرة وقال: يعني سياحة؟

– نعم.

* أصلك كاتب كلمة زيارة في خانة السبب.. كان يجب أن تكتب سياحة..

– یعنی زیارة، سياحة، ما تفرقش…

انتهت إجراءات الجوازات وأخذت جواز السفر الخاص بي مختومة بختم الخروج، دخلت الجمارك. من الواضح أنني كنت الزيون الوحيد في جمرك السيارات منذ عدة شهور، المطلوب عمل صورة ضوئية من الاستمارة 126 بعد ختمها، الختم على ظهر الاستمارة، يجب أن يتم تصوير الاستمارة وجه وظهر… آه … أين سنجد ماكينة تصويرهنا ؟ وإذا وجدناها فمن سيسمح لى بتصوير الاستمارة ؟… لا تقلق سنصورها لك …

جلست مع الموظف ندردش في مكتبه وهو يثبت بيانات السيارة في دفتر، ظهر موظفان من الجمرك، طلبا مني أن أتوجه لمكتب الأستاذ حمدي مدير الجمرك، رحب بي الرجل ودعاني إلى فنجان قهوة، ودار بيننا حديث طويل عن أصدقاء مشتركين في مجال المسرح، أرسل رجاله لتصوير الاستمارة ودفع الرسوم المطلوبة، حوالي 16 جنيها مصرية… انتهت إجراءات الجمارك.

– خلاص؟

*خلاص.

– مطلوب مني شيء آخر؟

*سلامتك.
– أخرج منين؟

* من هنا… اتفضل…

أدرت موتور السيارة وسرت في الطريق الذي أشاروا إليه. أنا أغادر الحدود، مصر خلفى الآن، ولفترة طويلة لن أتعامل بالعامية المصرية التي أحبها.

أقترب من نقطة عسكرية إسرائيلية، موقع حدود، ببطء وهدوء شديدين اقتربت من الحاجز الأفقي، دبت الحركة في الموقع في حذر، تقاطيع الوجوه مشدودة تحت نظارات الشمس القاتمة، بعضهم له لحية طويلة، والمدافع الرشاشة ذات حجم أتصور أنه أكبر من اللازم، من الواضح أنهم اختاروا أفراد هذا الموقع بعناية، فالأجسام عملاقة والملابس أنيقة … أنا لست أشاهد فيلما تقترب فيه الكاميرا من موقع عسکری إسرائيلي، أنا الذي أقترب فعلا، وهذا الذي أراه أمامي أشاهده من خلال زجاج السيارة الأمامي، وليس لقطة أشاهدها من خلال شاشة السينما أو التليفزيون .

قدر عال من التوتر ساد الموقع وأنا أقترب منه، ساورني الإحساس أن أي حركة خاطئة منى قد يترتب عليها نسف السيارة، هناك أصول للاقتراب من أي موقع عسكرى، أن تقف بعيدا عنه بعدة أمتار، لم أتنبه لذلك إلا بعد أن أصبحت مقدمة سيارتي تكاد تكون ملاصقة تماما اللحاجز الأفقي ذي الألوان السوداء والصفراء، حرصت على أن تبدو يدای واضحتين على عجلة القيادة، وخلعت نظارتي الشمسية ببطء وهدوء للإيحاء لهم بالاطمئنان.

اقترب جندي ضخم الجثة من الحاجز في الوقت الذي تراجع فيه للوراء عدد من أفراد الموقع متخذين مواقع حاكمة، رفع الجندي ذراعه عالية وأشار لي أن أعود للوراء، كانت إشارته أقرب للاستعراض وكأنه يشير لقول كبير من السيارات، كانت إشارته أيضا تحمل معنى التأنيب على اقترابي لهذا الحد من الحاجز، عدت للوراء عدة أمتار، فتح الحاجز في اتجاهي، في تلك اللحظة كان يجب أن أكسر حدة التوتر الذي ساد المكان أكثر من اللازم، الصمت يشعر البشر أحيانا بالفزع، قلت بصوت مرتفع: های … هل يتكلم أحد الإنجليزية؟

– نعم … إلى أين أنت ذاهب؟

* إلى إسرائيل ….

اقترب مني جندي فأظهرت له جواز سفری، آداب السلوك في مصر تحتم في مثل هذه الظروف أن أغادر السيارة ولكن هذا من الخطر أن أتحرك نازلا إلا بعد أن يطلبوا مني ذلك. وأخيرا أشار لي أن أفتح غطاء الموتور، فنزلت من السيارة، ألقي نظرة على الموتور ثم استخدم جهاز کشف المفرقعات، ألقي نظرة سريعة على محتويات السيارة في الوقت الذي كان فيه واحد من زملائه يجري مكالمة في جهاز اللاسلكي. استطعت من مكاني أن أرى ساحة الجمرك الخارجية خلف الموقع تماما على بعد مائة متر تقريبا، كانت الساحة خالية من البشر تماما، ثم ظهر أحد الأشخاص خارجا من مبنى الجمرك إلى الساحة، من الواضح أنه كان في انتظاری.

طلبوا مني أن أتوجه لساحة الجمرك من خلال طريق جانبی، وليس من خلال بوابة الموقع، كان الشخص فعلا في انتظاری، كان يرتدي ملابس رمادية، هو من أفراد الأمن. طلب مني أن أترك السيارة وأن أسير معه، أخذت أغلق باب السيارة فطلب مني أن أتركها مفتوحة، لا خوف عليها.

دخلت معه إلى صالة الجوازات الداخلية، تقدمت ناحية شباك تجلس خلفه ضابطة شرطة شابة، أعطتني بطاقة دخول ملأتها، سألتني: حجزت في أي فندق؟

* لم أحجز في أي فندق.

– إلى أي مكان أنت ذاهب في إسرائيل؟

* إلى أي مكان وإلى كل مكان…

– من تعرف هناك؟

* الشاعر توفيق زياد عمدة الناصرة، والروائيين إميل حبيبي وسامي ميخائيل والأستاذ ساسون سوميخ رئيس قسم الأدب العربي في جامعة تل أبيب.

شاب يقف بجواري يرتدي الملابس الجينز، حسبته في البداية أحد المسافرين إلى أن تنبهت لجهاز لاسلكي صغير جدا في يده قال لى بالإنجليزية: أنا مسئول الأمن هذا… أريد أن أتكلم معك قليلا…

في جمل قصيرة سريعة عرفته بنفسي والهدف من الزيارة . – هل معك سلاح للدفاع الشخصي؟

* لا …

– هل أعطاك أحد شيئا؟

* لا …

استدعى واحدة من مساعديه، كان يجيد اللغة العربية، قام بملء الاستمارات المطلوبة معتمدة في إثبات البيانات على رخصة السيارة المصرية، لا أهمية لدفتر التربتك الذي دفعت فيه 260 جنيها، لم يطلبوه، أخذت أتحرك من موظف لآخر، غيرت 500 دولار إلى شيكلات، الشيكل حوالى جنيه وربع، الدولار أقل من ثلاثة شيكلات. دفعت تأمينا على السيارة ضد الحوادث لمدة شهر، أعطانی رخصة تسيير للسيارة داخل إسرائيل، انتهت الإجراءات الإدارية.

مرة أخرى خرج معی مسئول الأمن إلى الساحة الخارجية حيث توجد سيارتي، والآن أخرج كل حاجاتك من السيارة وضعها على التروللى.

كنت أتصور أنهم سيفتشون حقائبي داخل السيارة، الواقع أنني كنت قد حولت السيارة إلى حقيبة كبيرة ألقيت في كل ركن فيها بحاجاتی في أكياس بلاستيك أخرجتها جميعا ووضعتها على التروللي وعدت بها إلى صالة الجمرك الداخلية، تركتها لهم هناك ثم عدت معه إلى السيارة . طلب مني أن أقودها فوق مجري في الأرض مزود بسلم يشبه ذلك النوع الموجود في محطات التشحيم، نزل السلم وفحص أسفل السيارة، صعد مرة أخرى وطلب مني أن أفتح غطاء الموتور، لابد أنه أصيب بصدمة، شكل الموتور الخارجي الذي لم ينظف منذ شهورلا يوحي بالثقة، في الغالب بحث طويلا عن وصف للموتورلا يشعرنی بالإهانة وأخيرا قال: الموتور يعلوه التراب Dusty.

الواقع أنني تعمدت ألا أغسل الموتور تطبيقا لقاعدة بطينه ولا غسيل البرك خشيت أن أغامر بغسله بالماء فأعرض أسلاك الأسبراتير أو البوچیهات للتلف . كشف على كل أجزاء السيارة بجهاز كشف المفرقعات، عدت إلى صالة الجمرك الداخلية من ناحية باب الخروج هذه المرة، كانوا قد انتهوا من تفتيش حاجاتی، عدت بها إلى السيارة …. واحد من موظفي الجمرك يتكلم العربية أعطاني خريطة ألقيت عليها نظرة سريعة، لست مدربة على السيرمسترشدا بخريطة، سأكتفي بعلامات الطريق المكتوبة بالإنجليزية…

– خذ هذا الطريق .. ستجد نقطة حدود.. ادخل على اليمين.. ثم

واصل طريقك. تنبه للعلامات.

مقتبس من كتاب “رحلة الى اسرائيل للكاتب الراحل :علي سالم الناشر : مكتبة مدبولي الصغير


https://kalamfisyassa.com

اترك رد