Home قالت العصفورة مقتطف٤..ضياع في استنبول

مقتطف٤..ضياع في استنبول

by ميلاد ديب
0 comments

كان زوجي يعود ليلا حاملا بعض الطعام والنقود والدخان ، ورائحة نسائية تنخر جسده الصلب ، وتتشظى في ثيابه وشعره وأصابعه وأظافره وعرقه. عرفت أن تلك الرائحة ليست لامرأة واحدة ، بل لنساء يسرقن رجولته بشكل لا يقبل الشك . أخبرني أنه يعمل في مقصف ليلي ، وان تلك الرائحة التي تنزرع فيه زرعا من عاملات المقصف ، ومن زائراته . كان يمط شفتيه المصفرتين ويقول منغما : أنت تعرفين ماذا يعني المقصف ، أليس كذلك، يا هرتي .؟ ثم يصدح بأغنية ( بين ريتا وعيوني بندقية ). التي أحبها جدا ، فيرفض التوقف حتى يصفو مائي العكر .
قبل أن تتزوج أختي الكبيرة المقتولة على يد زوجها . قالت لي وقتها ، وهي تتطلع نحوي بعينين براقتين : يا فراشتي ، عليك أن تعرفي سماءك جيدا ، كي تحسني الطيران في زرقتها اللامتناهية. سينتابك ذلك الشعور بالسمو والحرية والتحرر من كل ما يربطك بالأرض وناسها وأنت في الأمداء . أبدا لا تسمحي لأحد بأن يقص جناحيك .
الطفلة فيّ ستكبر، وستنمو سنواتها كشجرة شوك سامة تجرح من يلمسها. والطائرة الورقية التي صنعتها ، وهي طفلة ، على شكل فراشة ولونتها بالأزرق والأبيض والبنفسجي لتطلقها في السماء ، بقيت حبيسة غرفتها حتى تمزقت ، فأمي لم تسمح لي بالخروج إلى الشارع لأحررها ،قيدتها بالعادات والتقليد ، فالبنت عليها ألا تمارس طفولتها في الخارج ، فذلك قد يفقدها شرفها كما قالت . وقتها لم أعرف أين يكمن شرف البنت ، و كيف من الممكن أن تفقد الطفلة شرفها إن لعبت في الخارج ؟. كبت الطفولة أسوأ ما يناله الإنسان في المستقبل عندما يكبر ، ولن يستطيع الواحد منا أن يفك عقده إلا بخسارات كبيرة قد تودي به إلى التطرف تجاه نفسه ، حيث لن يحصل في النهاية على ما يريد ، بل ربما يخسر حياته لحظة التمادي في الإحباط المفرط لوظيفته ككائن محسوب على هذا العالم الأناني .
تدربي في صالة شعيب للفنون التشكيلية ، منحني معرفة ما أريد واختيار مستقبلي. كنت في الصف الحادي عشر ، لمّا أستاذ الفنون رأى ما رسمت وانبهر.. لقد عبرت عما يجول في فكري لا غير. ماذا يهم إن رسمت الرجل على شكل قضيب وحوله أربع نساء . قال لي : ستقوم القيامة لو رأى أهلك ما خطت به أصابعك . في الحقيقة ما قاله شجعني على المضي في تلوين ما يعكر بصر الرائي وأفكاره . إنني أرسم فكرا قبل كل شيء ، وأتوحد به . الصورة هي أنا ، بكل ما تحمل من معان . الأستاذ طلب مني الذهاب الى صالة الفنون لأتدرب حيث كان يعلم هناك . أحببت المضي بعيدا وتأكيد ذاتي ، حتى لو قامت القيامة . أمي صرخت بأعلى صوتها عندما علمت أنني أريد أن أصبح رسامة : تريدين أن تصبحي رسامة يا للعيب! ومن حسن حظي كان خالي موجودا في بيتنا وقتئذ .. فهو رسام معروف وقد أقام معارض كثيرة في تلك الصالة . لقد أقنع أمي بهدوء أن توافق على ذهابي للتدرب ساعتين يوميا ، فوافقت على مضض .

You may also like

Leave a Comment

Soledad is the Best Newspaper and Magazine WordPress Theme with tons of options and demos ready to import. This theme is perfect for blogs and excellent for online stores, news, magazine or review sites.

Editors' Picks

Latest Posts

u00a92022 Soledad, A Media Company – All Right Reserved. Designed and Developed by PenciDesign