…
كان زوجي يعود ليلا حاملا بعض الطعام والنقود والدخان ، ورائحة نسائية تنخر جسده الصلب ، وتتشظى في ثيابه وشعره وأصابعه وأظافره وعرقه. عرفت أن تلك الرائحة ليست لامرأة واحدة ، بل لنساء يسرقن رجولته بشكل لا يقبل الشك . أخبرني أنه يعمل في مقصف ليلي ، وان تلك الرائحة التي تنزرع فيه زرعا من عاملات المقصف ، ومن زائراته . كان يمط شفتيه المصفرتين ويقول منغما : أنت تعرفين ماذا يعني المقصف ، أليس كذلك، يا هرتي .؟ ثم يصدح بأغنية ( بين ريتا وعيوني بندقية ). التي أحبها جدا ، فيرفض التوقف حتى يصفو مائي العكر .
قبل أن تتزوج أختي الكبيرة المقتولة على يد زوجها . قالت لي وقتها ، وهي تتطلع نحوي بعينين براقتين : يا فراشتي ، عليك أن تعرفي سماءك جيدا ، كي تحسني الطيران في زرقتها اللامتناهية. سينتابك ذلك الشعور بالسمو والحرية والتحرر من كل ما يربطك بالأرض وناسها وأنت في الأمداء . أبدا لا تسمحي لأحد بأن يقص جناحيك .
الطفلة فيّ ستكبر، وستنمو سنواتها كشجرة شوك سامة تجرح من يلمسها. والطائرة الورقية التي صنعتها ، وهي طفلة ، على شكل فراشة ولونتها بالأزرق والأبيض والبنفسجي لتطلقها في السماء ، بقيت حبيسة غرفتها حتى تمزقت ، فأمي لم تسمح لي بالخروج إلى الشارع لأحررها ،قيدتها بالعادات والتقليد ، فالبنت عليها ألا تمارس طفولتها في الخارج ، فذلك قد يفقدها شرفها كما قالت . وقتها لم أعرف أين يكمن شرف البنت ، و كيف من الممكن أن تفقد الطفلة شرفها إن لعبت في الخارج ؟. كبت الطفولة أسوأ ما يناله الإنسان في المستقبل عندما يكبر ، ولن يستطيع الواحد منا أن يفك عقده إلا بخسارات كبيرة قد تودي به إلى التطرف تجاه نفسه ، حيث لن يحصل في النهاية على ما يريد ، بل ربما يخسر حياته لحظة التمادي في الإحباط المفرط لوظيفته ككائن محسوب على هذا العالم الأناني .
تدربي في صالة شعيب للفنون التشكيلية ، منحني معرفة ما أريد واختيار مستقبلي. كنت في الصف الحادي عشر ، لمّا أستاذ الفنون رأى ما رسمت وانبهر.. لقد عبرت عما يجول في فكري لا غير. ماذا يهم إن رسمت الرجل على شكل قضيب وحوله أربع نساء . قال لي : ستقوم القيامة لو رأى أهلك ما خطت به أصابعك . في الحقيقة ما قاله شجعني على المضي في تلوين ما يعكر بصر الرائي وأفكاره . إنني أرسم فكرا قبل كل شيء ، وأتوحد به . الصورة هي أنا ، بكل ما تحمل من معان . الأستاذ طلب مني الذهاب الى صالة الفنون لأتدرب حيث كان يعلم هناك . أحببت المضي بعيدا وتأكيد ذاتي ، حتى لو قامت القيامة . أمي صرخت بأعلى صوتها عندما علمت أنني أريد أن أصبح رسامة : تريدين أن تصبحي رسامة يا للعيب! ومن حسن حظي كان خالي موجودا في بيتنا وقتئذ .. فهو رسام معروف وقد أقام معارض كثيرة في تلك الصالة . لقد أقنع أمي بهدوء أن توافق على ذهابي للتدرب ساعتين يوميا ، فوافقت على مضض .