في نهاية العام 2004 وبعد انتهاء اجتماع قمة حلف الأطلسي ” الناتو” في إسطنبول التركية لمراجعة منجزاتهم في العراق ، أحتار مساعدو جورج بوش ورجب طيب أردوغان في اختيار المكان الذي يطل عليه بوش المنتصر على الخراب لألقاء كلمة إلى العالم، يعلن فيها رسميا تدشين وضع تركيا في القائمة الرسمية كوكيل معتمد للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط ، توصلوا بعد جولات من تبادل الرأي والمعلومات إلى مكان مطل على جسر البوسفور الرابط بين قارتي آسيا وأوروبا، في خلفية المكان تظهر مآذن مسجد أورتاكوي الشهيرة، حيث التاريخ يروي حكاياته.
لم يكن اختيار المكان من عبث، يومها كانت شعوب المنطقة تعيش صدمة تاريخية غير قابلة للاستيعاب من طرفهم، أصبح التعامل مع الأمريكي وجها لوجه في المنطقة بعد أن كان هذا التعامل حكرا على المحظوظين من أبناء عائلات النخب طوال تاريخها، شعوب كانت تشتم أمريكا ليل نهار دون أن تعرف عنها شيئا تجد نفسها بين ليلة وضحاها يواجه الأمريكي ويقول له صباح الخير، عقود طويلة وهم يسمعون زعمائهم القوميين ونخبهم ويمينهم ويسارهم ومعارضيهم ومؤيديهم يهددون ويتوعدون أمريكا في عقر دارها بالهزيمة والانهيار لو فكرت يوما الاقتراب من أرضهم، وأصروا حتى اللحظة الأخيرة وما زالوا على أن هزيمة أمريكا هي قاب قوسين وأدنى، لم يلتفتوا أبدا بمكان بوش ولا بما قاله في ذلك الخطاب والذي كان يخصهم أكثر من غيرهم، حين يكون الحديث عن جورج دبليو بوش استهزائيا من طرف معظم النخب العربية والكردية، فيما كانت النخب التركية تذهب نحو التنمية والاستقرار والعلاقة المتوازنة مع الغرب والسعي للانضمام للاتحاد الأوروبي.
يومها أعلن بوش على الملأ خطاب تعيين تركيا كممثل رئيس لأمريكا في المنطقة، موجها خطابه إلى النخب السياسية التركية وعلى رأسهم أردوغان المنتشي بوصوله إلى الحكم قبل عامين:” مع 150 عام من الديمقراطية والإصلاحات الاجتماعية في بلادكم، أصبحتم مؤهلين لقيادة المستقبل في الشرق الأوسط كمثال يحتذى في العلاقة بين الشرق والغرب وهذا ليس غريب عليكم فأنتم جزء منهما…. انضمامكم لأوروبا سيكون أهم خطوة لتجسير الهوة بين العالم الاسلامي والغرب سوف حافزا لتعزيز الديمقراطية والحريات الشخصية”، كان النموذج التركي يومها بيضة القبان في مواجهة الإسلاموية الإيرانية المنفلتة من عقالها، وتسلل جماعات الإخوان في دول عربية كبيرة وامساكهم لمفاصل مؤثرة في إدارة الكثير من الدول العربية ذات الثقل، كانت نجاحات تركيا وقتها مضرب مثل للمسلمين، اتجهت جماعات الإخوان نحو الدولة التي كانت في طور التحول إلى واحة للديمقراطية والحريات و”صفر المشاكل” مع الجيران والنمو الاقتصادي ليمارسوا فعلهم الدائم في تدمير أي محاولة إسلامية لاستعادة مجد المسلمين الضائع، ذهبوا لضرب ثلاثين عاما من الإدارة الناجحة لحكومات تركيا السابقة التي بدأت مع الراحل توركوت أوزال “1989_1993″ ذو الأصول الكردية” والذي جاء إلى الحكم للرد على الحرب العبثية بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية، اتجه أوزال إلى تطوير التشريعات التركية لتتلاءم مع القوانين الأوروبية في المجال الاقتصادي ومارس الانفتاح السياسي حيث سمح لكل التنويعات السياسية بقوننة وجودها، معه انطلقت تركيا وتابع العقل السياسي التركي، سليمان ديمريل، الخطوات ذاتها، لكن الإخوان كان لهم كلاما آخرا وتوقفت العملية بالتدريج ليجهز أخيرا على كافة أساسات الدولة التركية ويضعها على شفا هاوية لا قائمة لتركيا بعدها.
بدأ أردوغان وجماعته بالتخلص من رجالات الدولة التركية واحداً أثر آخر بخطوات أطلق عليها النخب التركية اسم عمليات “تركيز السلطة في يد الجماعة” متخذا من الخطاب الثأري الشعبوي مرتكزا للنجاح في الانتخابات دون أن يلتفت لخطوات تعمق التوجه نحو أوروبا وتحول الوكالة الأمريكية له لقيادة العالم الإسلامي نحو السلام والتنمية والانفتاح على العالم، عمل كل ما يعوق تطور العالم الإسلامي كإقرار صريح منه ومن الجماعة الإخوانية بإن انفتاح العالم الإسلامي وتنميته وتطوره خطر وجودي عليهم، ينهي مبررات وجودهم كجماعة وأشخاص فذهب إلى القضية الفلسطينية بأمر من قيادة الإخوان في مصر، دخل في تلاسن وحرب إعلامية مع إسرائيل دون أن يقطع العلاقات الاقتصادية والعسكرية الوثيقة معها، لغاية كسب الجماهير في المنطقة العربية تمهيدا لإشعال النيران التي نشاهدها منذ العام 2011.
لقد حقق أردوغان أحلام جماعة الإخوان المسلمين بالاستثمار حتى الثمالة في دماء المسلمين، ومعها دمّر أحلام تركيا في تحقيق دولة تفرض احترامها بين دول العالم، لكن هل يستمر أردوغان؟ سيستيقظ التركي من غفوته وكما أعطاه الصفعة في الانتخابات البلدية الماضية في استنبول الكبرى وأنقرة فأن أمر خسارته في الانتخابات القادمة هو المرجح ولكن هل ستسكت ميليشيات الإخوان عن خسارة حتمية لزعيم الخراب الإسلاموي؟ يبدو أن ميليشيات الإخوان في تركيا أصبحت من الجاهزية بأنها قادرة على إشعال نار حرب أهلية تقضي على تركيا لعشرات السنوات القادمات، ومن أشعل النار في بيوت الجيران لا بد أن تصله تلك النيران وأن غد لناظره قريب وسيسجل التاريخ اسم أردوغان كمدمر تركيا ونيرون العالم الإسلامي بلا منازع.