ضياع في استنبول١٨
–
عندما كنت في سوريا بعت ابنتي ، فلم استطع أن أعيلها واعيل نفسي . تم كل ذلك بموافقة أهلي . لقد أرادوا التخلص مني ومنها ، فهم لا يريدون واحدة أخرى تشبه أختي وتشبهني ، متمردة وناقمة على مفردات وجودهم القبيحة . كنت في حالة من الغيبوبة واللاوعي و الهذيان والحمى والتقيؤ . ليتني بقيت مهجورة هناك في الشوارع والحدائق والقبور، لماذا عدت إلى قبري القديم ، ودفنت نفسي فيه من جديد. شجرة الليمون ، شجرة الياسمين ، زنزانتي الانفرادية ، الأرض الترابية ، دفاتري المدرسية، رسوماتي . كيف أنسى كل هذا بسهولة ، الابر المهدئة وجنوني وصراخي وبكائي واخوتي واحتراق اختي التي قالت لي قبل موتها بأيام: لقد اكتشف زوجي انني اكتب قصائد وخواطر فهاج واضطرب مثل حيوان مفترس حوصر في قفص ، فقام بإشعال النار في كتبي ، و احرق كل دفاتري التي دونت فيها اشعاري وخواطري.. ولم يكتف بذلك بل هدد بحرقي ايضا. لقد قلت لابي واخوتي ذلك ، لكنهم لم يصدقوني ، وهل يصدقوا فتاة جعلوها كذبة في حياتهم .
في يوم ماطر سال الحليب من حلمتي المتقدتين، وانفجر صراخي في ارجاء البيت وتدلى خيط من البكاء امتزج مع حبات المطر تحت شجرة الليمون ،فقد تذكرت أن لي صغيرة كانت ترضع منذ وقت قريب من ثديي الفائرين بالحليب ، جمعت الوحل وصرت ألطم صدري ووجهي ورأسي بيدي الطينيتين .. فتحت الباب وركضت حافية في الشارع الرئيسي ، كنت أضرب بقبضتي على ثديي واصرخ : الحليب الذي رضعت منه يا ابنتي مغشوشا
مثل الحليب الذي رضعته من ثدي أمي. بقيت ساعات أصرخ مثل المجنونة في الأحياء والأزقة والحدائق . عدت إلى البيت منهكة ومخدرة من التعب . كنت فارغة من الداخل ، وبلا إحساس بالعالم .اندفعت إلى المطبخ وتناولت سكينا حادة وقطعت بها شرايين معصمي . تخيلت تلك اللحظة طائرتي الورقية التي صنعتها في طفولتي ورأيتها تحلق فوق رأسي ثم تتشبث بزرقة السماء اللامتناهية. مشيت في الحديقة ما بين مرسمي وغرفة نومي .. رفعت يدي كراية ممزقة وبدأت بتلطيخ كل شيء بالدم ، شجرة الليمون والغرفة والمرسم .