صار لي بيت من غرفتين تفصل بينهما حديقة فيها شجرة ليمون معمرة و ياسمينة تغطي جدارا يطل على شارع عريض وتتدلى أغصانها من سطح مطبخ صغير وحمام بجانب الباب الرئيسي . والآن ماذا علي أن أفعل لأحصل على طعامي وطعام ابنتي؟ من أين أبدأ ؟ هذا ماكنت أفكر به باستمرار.
ومرت الأيام ثقيلة متعبة ، فأنا لم أجد أحدا يوظفني . والمال الذي أعطاني إياه أبي على وشك النفاذ. وحدث ما خشيت منه ، فقد سقطت في الكآبة الشديدة، وانتابتني الهلوسات القديمة ، والحمى المخيفة والتقيؤ . ورجعت كما كنت من قبل مدمنة على الأدوية المخدرة . وفي لحظات الغيبوبة وقعت على وثيقة بيع ابنتي لعائلة لبنانية ليس لديها أولاد ، وقبضت عليها بالدولار، وحينما صحوت بعد مرور أشهر ، نبحت أمومتي فصرخت مطالبة بها ، التمّ الناس حول بيتي ، وجاء أهلي محاولين تهدئتي ، ولم يسيطروا علي إلا بعد أن غرزوا إبرة مهدئة للأعصاب في مؤخرتي ، ذكرتني بالإبر التي كانوا يجلبونها لي من لبنان في سني المراهقة ، ويحقونني بها ، فأظل نائمة ثلاثة أيام متتالية .
تعودت العيش والنوم في البيوت المهجورة وأحيانا القبور والمستشفيات، حينما كنت في السابعة عشرة من عمري .المقبرة تشعرك بالموتى السريين الذين لا تراهم . هم في كل وقت معك ، حتى في سديم الليل يكونون حولك ، تتكلم معهم بحرية . معجزة الموت لن تنفي عنهم صفة انك قادر على تخيلهم أحياء، وهم بكامل أناقتهم . ويعتريك الوهم أحيانا في معرفة الحقيقي من المزيف ، كما حدث عند حلول الغسق وأنا ممددة على رخام القبر ،مغلقة عيني ومستسلمة للهدوء المطلق للأموات ، فقد شعرت بشفتين تطحنان شفتي ولم أعرف هل أنا أحلم برغباتي السرية ، أم أن أحدهم غزا مملكتي المنسية. فتحت عيني فوجدت شابا يافعا فوقي ، كانت الفتح الثاني لشفتي المهجورتين ، ارتعشت رغم جوعي وعطشي ، أردته أن يكمل ، أن يحرق بجسده الفتي كامل جسدي أن ينفض رماده على الرخام الأبيض ، لكنه هرب قائلا لي : القبر الذي تنامين عليه هو قبر أبي . هل خاف أن تمتد يد النار من الداخل ، لتسحبه إلى الجحيم ؟. أو ربما اعتبرني جنية القبور التي يتحدث عنها سكان الحي فغادر محافظا على صيده الثمين ،قبلة واحدة لاغير. هذه هي القبلة الثانية لحفار لم يتعمق في نبش خفاياي المظلمة . مرّ كنحلة لم تجد رحيقها هنا في زهرة ذابلة منسية بين ورد القبور .
لن أنصاع لإله بارد يعيش في لحمي ، سأشعله وأتداعى للحريق . ماذا يعني بالنسبة لي ،لا شيء البتة . هو موجود وله الوجود ، لكن لا سلطة له علي ، ولن يكون . كيف أغفر له ، بعد كل الذي حصل لي . لن أتردد في شتمه ، واتخاذه دريئة وقذفه بسكاكين حادة الرأس .
مقتطف ٧ من روايتي، ضياع في استنبول
10
previous post