ضياع في استنبول٢٩
ساعدت ام (د) في قلع سيقان البازلاء والفول بعد موت زوجها. وقمت معها بزراعة الخضروات في الحديقة أمام البيت. كنت ظلها الوارف كل المدة التي قضيتها هناك . حين عانقتني في بداية زيارتي الثانية لها شعرت أنني اعانق أمي الحقيقية وليس تلك التي ولدتني وهي فاتحة رجليها ومغلقة قلبها . قالت لي : ابني كان يثق بانك ستأتين إلى هنا، لذا طلب مني رعايتك والاهتمام بك. لقد ترك لك رسالة . فقد كان يعرف انه سيعتقل بعد ان زجوا برفاقه في السجن. وناولتني إياها بأصابع يطلع الربيع منها .. فتحتها وقراتها من وراء دموعي :
صديقتي العالية س:
اتوقع ان اعتقل قريبا ، الحياة لن تقف هاهنا . منذ غيابك المفاجئ ارسلت رفيقة لتسأل عنك على العنوان الذي أعطيتني إياه من قبل . قال اهلك لها: انك تزوجت وغادرت إلى امريكا . عرفت انهم يكذبون . لم نستطع ان نفعل شيئا فالأمن كان يلاحقنا من مكان الى مكان واسماؤنا كلها عندهم. قد يكون اسمك عندهم ايضا . فقد كان بيننا خائن وشى بنا . العالم يشتعل بالظلم ،ولااحد يستطيع اطفاءه الآن . العدالة قد تتأخر زمنا ، لكن عاجلا او آجلا ستحل مثل شعاع الشمس بوضوح مشرق. اغمسي اصابعك بالألوان وشكلي عالمك الاجمل.
كل الحب (د) .
هنا لم احتج ان آخذ حبة دواء واحدة ، ربما لان النغم الذي كان يترنم به (د ) شفاني كليا . كان يقول لي :الموسيقا دواء لكل داء .هو محق تماما ، لذا ادركت ان المرض يعيش في بيت يكره الموسيقا . نيسان الآن يزخرف روحي بالأزهار ونسائم فواحة بالعبير. أينما نظرت كان هناك حياة خضراء . لم يمر وقت طويل حتى اتصل بي أحد رفاق (د ) يطلب مني رسم صور للينين وماركس وفيروز فوافقت . حفرت الوجوه على الخشب بدلا من رسمها على القماش ..فلاقت استحسانا عند الجميع . ووزعت عملي بين الرسم وبين الزراعة . لقد احببت العيش هنا لما نلته من خير وحنان ورحمة اكثر مما أعطته المدينة لي بكثير . لكن سأفاجأ في يوم ماطر بأخي الصغير ، ومعه الشرطة يدقون علينا الباب ويأخذوني الى البيت مباشرة . صرخت وصرخت المرأة العجوز وقتها ، لكن لم يردعهم بكاؤنا الحار ولا صراخنا الجنوني .حملت مثل حقيبة ممتلئة بالحاجيات ووضعت في السيارة ثم غادرنا تحت ضربات حبات البرد .