يوميات كردي خائن: دفاعا عن الاستبداد “1”
_ إنما العاجز من لا يستبد _ عمر بن أبي ربيعة
عاد الربيع باكرا إلى تلك البقعة الجغرافية المحكومة بقبضة الأسد الابن، بعد شتاء قاسي وقصير، كانت الحيوانات الأقل قدرا في مجتمع الغابة، قد بدأت بالخروج من أوكارها والبحث عن لقمة العيش، حصلت مشاكل اعتيادية بين القطط والكلاب وبين الذئاب والكلاب بين القنافذ والأفاعي والعقاب ولكنها لم تؤثر أبدا على سلطة الأسد التي تشمل انحاء الغابة عبر وكلاء من كل أصناف الحيوانات، كانت كلاب الغابة هي الأكثر تضررا في السنوات الأخيرة من حكم الابن المستهتر وأبناء وبنات خدم أبيه الذين كبروا في نعيم الأب ولم يدركوا بعد معاناة العامة من السعي الدائم عن لقمة العيش.
روي في بعض المجالس أن حيوانات الغابة ضجرت من حكم الديكتاتور واستهتاره وعبثه وبطش ونوبات غضب أبناء الوكلاء من الضباع والذئاب والثعابين والعقارب، بدأ الحديث يسري في مجتمع الغابة، كانت الحمير الوحشية والبغال والأحصنة والقرود والكلاب والخنازير، أكثر الحيوانات حماسا للإطاحة بالملك، فيما كانت الغربان والدجاجات والبط والوز والطيور الجارحة من الصقور والنسور القليلة المتبقية والضباع غير مبالية بالإيحاءات التي تسري عن عصيان على القوانين الجديدة التي فرضها ملك الغابة على حدود بلاده بعد أخبار عن خلع أسود من العائلة نفسها في ممالك مجاورة.
وصل لأسماع الأسد عبر خدمه من القرود، أن ثمة اجتماعات جرت خلال السنوات الأخيرة، نظمتها الكلاب المرابطة جنوب الغابة، وأنهم تداولوا أمورا خطيرة تخص الغابة وأنهم تحدثوا في الاجتماع عن ضرورة خلع ملك الغابة واستبداله بحكم جماعي يكون للكلاب دورا فيها، وأن هناك أسود من ممالك أخرى وعدوا قرود الغابة بتوفير كميات كبيرة من الموز إذا ما انضموا لمعشر الكلاب في الجنوب وساعدوهم في تغيير ملك المملكة.
كانت من المرات النادرة التي يثني فيها الأسد على سلوك القرود ويشير لهم بمتابعة الموضوع وابلاغه بالتفاصيل، عادة كان يوبخهم حين يبلغونه أخبارا عن تذمر بعض الحيوانات من عدم توفر المواد الضرورية لهم، كأن يخرج وجه من وجهاء الأرانب ويشكي من عدم توفر الجذر، أو ضبع من الضباع عن عدم ترك الأسد ووكلائه من الذئاب والضباع ما يكفي لهم في الجثث التي يتركها، أو الخنازير من عنصرية الكثير من الحيوانات اتجاههم، أو الطيور من ظلم ثعابين الأسد بحق أبناءهم، فقط الكلاب، فقد كانت أمينة طوال تاريخ المملكة، نادرا ما حملت القرود بلاغا عنهم للأسد، أقصى ما لديها أن تنبح دفاعا عن صاحب الملك، ملك الغابة وحامي حدودها، الأسد الذي إذا زئر وصل صدى زئيره إلى أبعد الغابات، يتبعها صدى نباح كلابه، ومكافأة لبلاغ القرود، فتح حديقة الموز لهم ولأطفالهم ليعبثوا فيها ويأكلوا منها كما يشاؤون، وأشار لكلب الحراسة الكبير، راخوس، أن يجمع أشرس ضباع الغابة وخنازيرها وسحاليها وكتيبة الثعالب المرقطة ونسورها وأفاعيها وعقاربها وذئابها أمام عرينه قبل غروب شمس الغد.
استدعى ملك الغابة مستشاره المبعد، القبيح المتورم، المعروف بلقبه: القرد الحكيم مايكل، يقال أنه كان من ضمن الهدايا التي أرسلها أحد ملوك الغابات البعيدة لوالده إعجابا بشجاعته في المعارك التي لم يخضها دفاعا عن المُلك، وكبر الأسد وهو يستمع للقرد مايكل في مجالس والده مستمعا وخادما مطيعا، يروي معشر الكلاب أن الأسد الأب والابن لم يخوضا أي حروب وإنما كانت أشبه بمعارك بدماء حيوانات الغابة وعلى حساب رزقهم وأمانهم ولغاية التضييق عليهم وضمان ولاءهم لسلطتهم.
ذهب الأسد ليتذكر وصايا والده قبل أن يموت ” أياك ومخاصمة الكلاب! لا تترك الفرصة لهم ليكونوا خصومك، زئيرك لا ينفع أمام النباح. لا تخاصم إلا أسودا مثلك، ولا تصادق ولا تصدق إلا الأسود، أياك والكلاب، دعهم يتخاصمون بينهم، دعهم ينبحون وكن أسدا.
توقف حين رآى كلبه راخوس يساعد مايكل المترهل، القرد الحكيم، للقفز على مجرى صغير للماء أمام العرين، قال لأسمع هذا اللعين، القرد الذي لا يستطيع القفز قرد ناقص لا يستحق الحياة ولكن ليكن، لكني سأعمل بذلك الكلام الذي قاله لي أبي يوما” الهمجية لا تردعها إلا الهمجية، كن شجاعا وإذا رأيت حربا تُحضّر ضدك لا تصرّح لأحد بما تفكر به، اذهب إلى رابية واستعد في انتظار الأسود ، حتى إذا جاؤوك، رحب بهم وقل لهم أنك ملك الغابة، الهمجية لا تردعها إلا الهمجية وأن ضربت بيدك فأقتل وأن قتلت لا تقتل صرصارا أو كلبا، كن أسدا يا بني ولا تثق إلا بالأسود ووحدهم فقط”، ضحك الأسد مطلقا قهقهته المعتادة ووجه الكلام لصورة والده المعلقة في صدر العرين: اطمأن يا ابي، لتستقر روحك حيث هي، أزمة عابرة وسأكون ابنك الوريث ولن أدع المملكة إلا لابني الذي سميته باسمك.
كان الوقت نهاية الشتاء وبداية الربيع، وكان القرد الحكيم، كبير مستشاري ملك الغابة، قد عانى كثيرا في السنوات الأخيرة من إهمال الملك له وتفضيله مجالسة قرود قادمة من ممالك قريبة لهم رؤوسا مربعة، يروون حكايات غريبة، يميلون للعنف والغموض ويتجنبون رؤية قرود المملكة على اعتبارها قرود مثلهم، كان الأسد قد تعلم بعض عاداتهم حين أرسله والده إلى هناك لاكتساب الخبرة قبل تسلمه أمور المملكة، إضافة إلى ظفر الأسد بلبوة ذات حسن وجمال، لا تفارقه لحظة وتتكلم لغة حيّرت كبير المستشارين.
استمع القرد الحكيم لهواجس الأسد وما وصلته من أخبار عن كلاب الجنوب، استأذن الملك للحظات متجنبا تناول الموز الموضوع أمامه وطلب تبغا من صغيره الخادم في بيت الأسد، أخذ نفسا عميقا من سيجارته وبدأ بصوت أجش يحدث الملك: منذ خمس سنوات وأنا انتظر إشارة منك للتحدث في هذا الأمر، حيث أن ظلم الإخوة أشد مضاضة من حدّ السيف، لقد قضيت السنوات الأخيرة وأنت ترغد وتزبد بحق اخوتك في ممالك الجنوب، تشتمهم وتتوعدهم وترسل كلابنا وكلاب الجوار لتخويفهم وسرقة حيواناتهم وتأليب ضباعهم عليهم، كنت أخشى من هذا اليوم، إنهم اليوم يعدّون كلابك للانقلاب، لسان حالهم يقول كما تدين تدان .
توقف القرد الحكيم في هذه اللحظة حين سمع زئير الأسد، وأكمل بصوت مرتجف: تعلم يا مليكنا أنني عجوز وأنني كنت طوال الوقت مخلصا لك ولوالدك من قبل، ولم أوفر جهدا إلا وبذلته من أجل خدمتكم وأريد أن أنهي حياتي في هذه المهمة النبيلة.
أشار له الأسد أن يكمل حديثه ويروي ما لديه، محذرا إياه من التجاوز ومحاولة النيل من مكانته، اقترح الحكيم أن يرسله إلى ملوك الممالك الجنوبية بصفته مرسلا منه، قال أنه سيأمن شر الكلاب بالتعاون معهم والاستفادة من خبرتهم في تدجين الكلاب، كما كان يفعل والده من قبله، روى له حكاية تمر للكلاب في الشمال أيام أبيه، يومها كان الملك طفلا ولا يتذكر إلا بعض الكلام عن تمرد حصل في المملكة وتم استئصاله بسرعة، روى رغبته في عودة العلاقات الأخوية القائمة على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤون بعضهم البعض، استفاض مايكل في شرح وجهة نظره، مستندا في كلامه على قناعة مفادها، أن الكلاب لا تنبح إلا حين تشعر بأنها تستطيع اللجوء والاحتماء بأسد آخر، الكلاب لا تستطيع العيش بدون أسود يا سيدي، ملوك الممالك الجنوبية وقد سلطت عليهم كلابك أحيانا ودعوت كلابهم للعصيان عليهم، فقد اكتسبوا الخبرة التي لن يبخلوا بها عنك، الأسود لا تخون بعضها أياً كانت خلافاتهم، ستضع أسود الجنوب يدها في يدك لترويض كلابك، لا يمكن ترويض الكلاب إلا إذا اتفق الجميع على ترويضهم وفي نفس الوقت، أنهم يحاولون منذ زمن طويل ترويض كلابهم ولكن كما ترى النتيجة يا سيدي، الكلاب أمة واحدة، أما أن تروَّض سوية أو أنها ستبقى سائبة وتسبب الإزعاج للجميع، إذا كنا نحن معشر الحيوانات الأدنى في الشجاعة نشمئز من الكلاب ومن نباحها فما بالك بالحيوانات الأكثر شجاعة ونلى منا، كنت أحدث كلبك راخوس ونحن في الطريق إليك عن كراهية الذئاب لمعشرهم.
بينما كان الأسد في اجتماع مغلق مع لبوته وأصدقائه القادمين من مملكة بعيدة، جاءه كلبه يبلغه بحضور كبار جنرالات الحرب في الغابة، يتقدمهم الذئب الحاصل على وسام الشجاعة في حرب مجهولة التفاصيل أيام والده، التف الجمع حول الأسد ينتظرون إشارة منه، لكن الأسد لزم الصمت وأشار لكلبه أن يخرج القرود من العرين، وكان في قرارة نفسه يتمنى إخراج لبوته أيضا، لكنه عجز عن ذلك، حاول طرد ذكرى أبيه عن مخيلته ولكنه كان عصيا على الطرد، سمع صوت زئيره وهو ينشد: إنما العاجز من لا يستبد.
أمر جنرالاته بالوقوف أمام مسؤولياتهم المقدسة في حماية المملكة من الفوضى، تأديب كلاب المنطقة الجنوبية قبل استفحال الأمر، أشار لكبير الصقور أن يكون مستعدا لأي لحظة انقضاض إذا طلبت منه الثعابين أو العقارب أو الذئاب أو الضباع ذلك، بينما كان يوزع المهام، كانت لبوته تتدخل تحاول بلا جدوى احباط معنويات قادة الحرب، حيث أنهم لم يسبق لهم يوما أن استمعوا سويةَ لغير الأسود، فقد كانت اللبوة طوال التاريخ مكانها تربية الأشبال وتأمين احتياجاتهم اليومية وهو عرُف معمول به في كافة ممالك الأسود القريبة والبعيدة.
للكلاب عيون تنقل لهم ما يجري في مجلس الأسد، لم يكن الكلب راخوس يعلم كيف تصلهم الاخبار رغم محاولاته الكثيرة، فقد بقي حريصا أن لا يسمح لجراءه بالاقتراب مسافة كافية لسماع ما يجري داخل أسوار العرين المحصن، فيما كانت زوجته مهتمة بكوخهم الصغير وتلبية طلبات اللبوة الأولى.
يتبع…..
الحكاية من وحي الخيال وأي تطابق بينها وبين شخصيات في الواقع مجرد صدفة غير مقصودة