سوريا ملعب الإخوان من تركيا إلى إيران
لم يتعرف أبناء جيلي من السوريين على أعضاء جماعة الإخوان المسلمين ، فقد تسببت محاولتهم المبكرة للوصول إلى السلطة في حقبة السبعينيات من القرن الماضي عبر مواجهة النظام والمجتمع السوريين بتكفيرهما وإخراجهما من الملّة إلى القضاء على التنظيم السوري للجماعة وهروب معظم قادته إلى البلاد العربية وخاصة المملكة العربية السعودية ” سنعود للحديث عنهم لاحقا وكيف انقلبوا على المملكة التي فتحت أبوابها لهم ومنحت أولادهم الجنسية السعودية”، ووصل العشرات من القيادات منهم إلى الغرب، لندن خاصة، فيما تكفلت أجهزة الدولة السورية بالقضاء على هيكلية التنظيم وزج أعضاءه وكوادره الذين فرّوا من المواجهات المباشرة التي بدأوها مع الجيش إلى السجون وكان مآل الكثير منهم الإعدام ضمن حفلات الإعدام الجماعي التي تسربت أخبارها من سجون سوريا الممتدة على كامل جغرافيتها، وصولا إلى قوننة تطهير سوريا من أعضاء الجماعة بإصدار قانون أقره مجلس الشعب السوري بالإجماع في العام 1980 حمل الرقم 49 والذي ينص في مادته الأولى “يعتبر مجرما ويعاقب بالإعدام كل منتسب لتنظيم جماعة الإخوان المسلمين ويعفي في مادته الثانية من العقوبة من يعلن انسحابه من الجماعة خلال شهر واحد من تاريخ نفاذ القانون على أن يعلن الانسحاب بموجب تصريخ خطي يقدمه المنسحب شخصيا إلى المحافظ أو السفير لمن هم خارج سوريا بتاريخ صدور القانون.
لم تلتفت نخب الإخوان الفارين من المواجهة إلى مؤشر في غاية الخطورة والوضوح حينها وهي أن نخب سوريا بكافة تلويناتها السياسية والفكرية والعلمية والاقتصادية لم تبدي اعتراض يُذكر على القانون الذي لم يكن له شبيه في العالم إلا قانون تجريم النازية، بل باركت أطياف المجتمع السوري ذلك وشاركت بهمة ونشاط في مواجهة المنتسبين للجماعة، وكان أمر وجود شخص منهم في حي من أحياء المدن السورية كفيل بعزل العائلة اجتماعيا واقتصاديا من طرف الجيران قبل أن يكون من طرف أجهزة النظام، حتى وصل الأمر بأن يتكفل نظام الأسد الأب نفسه، صاحب قانون تطهير المجتمع من الإخوان بحملة تدين ممنهجة للمجتمع السوري وإعادة الاعتبار لرجال الدين السنّة على أثر التشويه الذي أصاب هؤلاء بجريرة إدعاء الإخوان تمثيلهم عبر استغلال الدين.
كان السوريون ينظرون بريبة لرجل الدين بسبب تحكم جماعة الإخوان وتغلغلهم في تلك الأوساط ومن ثم انقلابهم عليهم بدعوى خيانتهم والوقوف مع “فسطاط الشرّ والكفر” المتمثل حينها بالمعسكر الشيوعي، إذا بدأت المواجهة بعمليات اغتيال طالت أفضل الكوادر والنخب العلمية والثقافية السورية ثم استتبعوها بارتكاب مجزرة المدفعية في حلب والتي راح ضحيتها حسب أهم عقولهم وعقول تنظيم القاعدة فيما بعد، المدعو أبو مصعب السوري، 250 طالبا.
كان وقع الخيانة والخساسة واحتقار السوري من طرف الجماعة الإخوانية، ثقيلا على السوري وخاصة أن منفذ العملية الدنيئة كان ضابطا مدربا مفروضا عليهم كمثل يجب أن يقتدى به هؤلاء الطلاب وهو المدعو أبراهيم اليوسف الذي ستتباهى ما تسمى الثورة السورية فيما بعد به وتسمي عملية تدمير مدينة حلب بغزوة إبراهيم اليوسف مجددا بعدما دفع المجتمع السوري ثلاث عقود ثمن المجزرة الأولى.
فرغت سوريا من إخوانها وكان ذلك المشهد مفزعا للنظام فبادر لملأ الفراغ بأقنعة إخوانية ظنا منه أن القضية هي قضية جماعة سورية وليست قضية فكرة استخدام الدين لتبرير الجريمة من أجل الوصول إلى الحكم، كان الرئيس الراحل حافظ الأسد واثقا من قدرته على التحكم بخيوط المعضلات التي تواجهه بابعادها واستبعادها عن الداخل السوري وتركها في ملعب العلاقات الخارجية وموازينها التي كان يتقن اللعب فيها.
على مدار النصف الثاني من الثمانينيات والتسعينيات، ارتبطت الجماعات الدينية المنظمة في سوريا باسم الرئيس الأسد مباشرة عبر أقنية باتت معروفة وكان معهد الفتح في دمشق، على سبيل المثال، يضم في غرفه المئات من طلاب الجهاد الذين تحولوا فيما بعد إلى رموز في تنظيمات القاعدة وداعش والنصرة وجيش المقدس ومعهم أخوتهم طلّاب الجهاد السوري الذي سيأتي بعد سنوات وتحديدا في عهد الأسد الابن، فهل كان الأب يعد مقبرة أرثه دون أن يدري؟ على الأغلب كان يظن أن التحكم في الجماعات الدينية أمر في متناول اليد، طالما أن المجتمع السوري اختبره وعرف وجهه القبيح قبل بلاد المسلمين في العالم، كانت تجربة الإخوان السوريون هي التجربة الأولى للعنف المنظم في تاريخ الجماعة وكانت الدرس الأول الذي لم يتعلم منه أحد، لعب الأسد دورا أساسيا في ذلك بحجبه الموضوع كليا وسجنه المجتمع السوري ضمن قائمة ممنوعات لا تنتهي.
ورث بشار الأسد التركة بعد أن نضجت تجربة طلاب الجهاد وفي السنة الأولى من حكم الابن كادت حادثة 11 سبتمبر أن تعيد الاعتبار لتجربة والده في مواجهة الإخوان، إلا إن رياح المصالح الدولية وعدم استيعاب بشار على أسرار حكم والده، أخذت الموضوع إلى جهة أخرى فتحولت سوريا وبسرعة إلى قاعدة للجهاد في العراق بقيادة إيران التي تشارك الحكم في بغداد مع الأمريكان، هكذا أخذ بشار الأسد دور الوسيط بين الجهاديين وايران بحجة مواجهة “الاحتلال” الأمريكي للعراق، ظنا منه أن أمريكا على أبواب دمشق بعد بغداد، في فهم ساذج للسياسة دعمته إيران بأضاليل لا تمر إلا على المبتدئين في إدارة الأحزاب والجماعات الصغيرة، لكنها مرّت على بشار لتصل به الأمور إلى استصغار حجم سوريا واخراجها من محيطها العربي، السند الحيوي الوحيد الذي استمد منه الأب طوال سنوات حكمه شرعيته والمخرج الوحيد لجل الأزمات التي مر فيها حين وقف يشتم القادة والملوك والشيوخ العرب دفاعا عن إيران وحزبها اللبناني.
فتح بشار الأسد أبواب دمشق لكل كارهي عروبته التي استمد منها أبيه الحكم، فوجد نفسه محاطا بالجماعة التي تجمعه بها عنصريتهم حيال العرب وكراهيتهم للعروبة، فمن الشمال فتح الباب للتركي الأردوغاني ومن تحت ثوبه استعاد الاخوان عافيتهم ومن الشرق كانت إيران تحوّل سوريا إلى حديقة خلفية للمزايدات الخادعة والمزارات التي تستمد حضورها من آلام التاريخ، تسللت الجماعة الإخوانية بطبعتها الشيعية والسنية واستطاعت تجذير نفسها في صفوف المعارضة خارجا وفي الجيش والشرطة والجامعات والاقتصاد والفن والثقافة عبر البوابات التركية والإيرانية وبدعم قطري سخيّ للطرفين تمهيدا لما ستأتي بعدها من أيام.
وجد بشار الأسد نفسه في صيف العام 2013 ومع وصول رفاق الأمس من طلّاب الجهاد في عهد أبيه أبواب قصره، أصغر وأقل تأثيرا من قائد ميليشيا صغير في حزب الله الإيراني الهوى والهوية، لم يكن أمامه باب للنجاة سوى باب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الرجل القوي المستند على أساطير عودة العنقاء الروسية من رماد الشيوعية، فلاديمير بوتين المغرم بالإثارة والتشويق والتعامل مع المافيات العابرة للهويات والدول، وجد ضالته في الجماعة الإخوانية ليكونوا مختبرا ومبررا كافيا لتجريب السلاح لفرض سعره واجبار الدول المتصارعة على شراءه ” قائمة الدول التي اشترت السلاح الروسي وخاصة منظومة الصواريخ أس 4 المتطورة تلقي الضوء على الكثير من تفاصيل الصراع على سوريا”.
تحولت سوريا إلى أرض معارك بين شركاء الأمس القريب لبشار، دخل الإيراني في مواجهة مع التركي عن طريق وكلائهم الزاعمين لتمثيلهم طوائف السنة والشيعة وأخذت الحرب شكلا طائفيا لا تخفى على عين وما زالت تتواصل على مراحل فهل سينجح التركي والإيراني في تقسيم البلاد بينهما أن أن روسيا والولايات المتحدة الأمريكية لهما قول الفصل في ظل غياب السوريين عن طرح الحلول لمشكلتهم؟ هل سيستعيد بشار الأسد عافيته؟ أم أن العطار الروسي لا يصلح ما أفسده الدهر؟ هل سيترك العرب سوريا فريسة للإيراني والتركي وإخوانهم؟