تحول تنظيم “جبهة النصرة” الذي أعلن عن تأسيسه مطلع العام 2012 إلى تنظيم “هيئة تحرير الشام” في الشهر الأول من العام 2017، إثر التغيير الجيوسياسي والإيديولوجي الطفيف الذي طرأ عليه وإعلان انفصاله عن تنظيم “القاعدة”. وعلى الرغم من إعلان التأسيس مطلع 2012 إلا أن النصرة نفذت عمليات انتحارية عدة عام 2011 وكانت أول عملية انتحارية مزدوجة لها في الـ 23 من شهر كانون الأول 2011 من خلال تفجير فرع المخابرات العامة بحي كفرسوسة بالعاصمة السورية دمشق.
واكتسب التنظيم على مر السنوات عداوة كثيرة مع الفصائل المسلحة في سورية، المتشددة منها والمعتدلة، لا سيما مع انشقاق مجموعة من الفصائل عنه مؤخرًا كـ”جند الملاحم” و”جيش الأحرار” و”نور الدين الزنكي”. ويذكر أن الهيئة تشكلت من خلال دمج كل من جبهة فتح الشام (التي كانت تُعرف بجبهة النصرة سابقًا) وجبهة أنصار الدين ثم جيش السنة ولواء الحق وحركة نور الدين الزنكي. وبالرغم مما شهدته من تغيرات، فإنها لا تزال تصنف على مستوى العالم ضمن الجماعة السلفية الجهادية المتشددة.
مبررات التحول
هناك عدة أسباب تبرر التحول الذي شهده التنظيم من أجل خروج الكيان الجديد (هيئة تحرير الشام)، من أبرزها: سعي التنظيم الدائم إلى تغيير الصورة الذهنية العالمية الخاصة به؛ والتخلص من العناصر المتورطة في العمليات الإرهابية التي طالتها العقوبات، لا سيما بعد إقرار مجلس الأمن الدولي بالإجماع عقوبات على عدد من الأشخاص المرتبطين بتنظيم “جبهة النصرة” في أغسطس/آب 2014، وفك الارتباط مع “تنظيم القاعدة”، حيث يؤكد زعيم التنظيم أبو محمد الجولاني أن الهيئة أحدثت تغيرات في الإيديولوجية التي تتبناها، وتحولت إلى “ما يشبه حركة تحرر وطني ضد الاحتلال، وليست مجرد تنظيم متطرف كما كانت عليه مسبقًا”.
وتعد “تحرير الشام” الأكثر قوة في الشمال السوري، وتسيطر على أبرز المعابر التجارية كـ (معبر باب الهوى) نقطة الرسمية الوحيدة التي تربط إدلب بتركيا، إلى جانب سيطرتها على أكثر من 60% من الأراضي.
كذلك، عمل التنظيم على تطوير أهدافه داخليًا فيما يتعلق بمناطق النفوذ من مجرد تحقيق انتصارات عسكرية إلى السعي للاستحواذ على السلطة السياسية عن طريق تشكيل “حكومة الإنقاذ” كواجهة مدنية لها، والتي وسّعت عملها تدريجياً لتصبح الجهاز الإداري لمحافظة إدلب التي باتت تحكم السيطرة عليها بالكامل مطلع عام 2019. وكذلك طور التنظيم أهدافه خارج مناطق نفوذه، حيث تجاوز فكرة إسقاط نظام الأسد، إلى الانغماس في معركة ضد القوات الروسية والإيرانية أو “الاحتلالين الروسي والتركي” حسب ما وصفهما “الجولاني”.
ولم تتضمن تصريحات “الجولاني” أي إشارة للقوات التركية المتواجدة في سورية، ما يشير إلى التنسيق الضمني والتحالف مع الجانب التركي، إضافة إلى رغبة “تحرير الشام” في البحث عن داعم إقليمي ودولي من خلال اللجوء للتعاون مع تركيا في سورية في مواجهة المحور الروسي–الإيراني، ما تطلب تغييرا في إيديولوجية التنظيم؛ بحيث لا تتعارض مع توجهات الحليف التركي، وهو ما أدى لكثير من الخلافات بين الهيئة والتنظيمات “الجهادية” في سورية والتي تصاعدت إلى حد الاقتتال والصراع بينهم.
العلاقات مع تركيا
نجحت “هيئة تحرير الشام” في تعظيم مكاسبها في شمال غرب الأراضي السورية، تحديدا في إدلب التي تعد معقلاً للفصائل المعارضة، حتى باتت المحافظة بأكملها تحت سيطرة ونفوذ الهيئة التي استطاعت الاستحواذ عليها بعد معارك ضارية واقتتال داخلي ما بين الفصائل، استمر بشكل متقطع لعامين منذ 2017. ونجحت الهيئة في كسب مزيدٍ من ثقة الجانب التركي، وارتبطت بعلاقات عضوية مع القوات التركية وحصلت على الكثير من الامتيازات مقابل حماية المصالح التركية، وهي امتيازات سبق أن كانت حكرًا على فصائل أخرى، مثل “أحرار الشام” و”فيلق الشام، وتلقت تحرير الشام انتقادات حادة من قبل تنظيمات جهادية أخرى بسبب علاقتها القوية مع الحكومة التركية واللقاءات المستمرة بين قياداتها والمخابرات التركية، حيث تعتبر تلك التنظيمات تركيا دولة علمانية وعضوًا في حلف الناتو وتشارك في عملياته في أفغانستان ضد الجهاديين، لكن الهيئة استمرت في التعاون مع المخابرات التركية.
وعلى سبيل المثال، وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان، في 23/6/2020، اعتقال الهيئة لـ”أبي مالك التلي” أحد شركاء “الجولاني” بناءً على تعليمات تركية في إطار وعود “أردوغان” لـ”بوتين” بتصفية التنظيمات الجهادية في المنطقة، لا سيما وأن “التلي” أسس مجموعة جهادية في أبريل 2020 ترفض الاتفاقيات الروسية-التركية وتسليم طريق حلب- اللاذقية للقوات الروسية.
كذلك، رسخت الهيئة التواجد التركي إبان تطبيق قانون “قيصر” للعقوبات الاقتصادية على النظام السوري من خلال اعتماد الليرة التركية ضمن مناطق تحرير الشام والفصائل، ما يعني إقرار بسلطة النفوذ التركي على هذه المناطق وإحكام قبضته عليها، وخلع أحد مظاهر الهوية السورية عنها.
صراعات واقتتال
تشكل ظاهرة الانشقاق داخل التنظيمات الجهادية في سوريا ظاهرة اعتيادية، وقد شهدت منطقة نفوذ الفصائل مؤخرًا في 12/6/2020 إصدار مجموعة من الفصائل “الجهادية” بيانًا أعلنت فيه تشكيل غرفة عمليات جديدة تحت مسمى (فاثبتوا)، وهي جماعة ترفض اتفاقات موسكو وأنقرة بدءًا من اتفاق سوتشي 2018 وانتهاءً باتفاق موسكو 5/3/2020، ويتزعمها “أبو العبد أشداء” الذي كان أحد قادة الهيئة بعد انشقاقه عن حركة “أحرار الشام”. وتضم غرفة عملية (فاثبتوا) كلاً من: تنسيقية الجهاد، ولواء المقاتلين الأنصار بقيادة أبي مالك الشامي، وجبهة أنصار الدين، وجماعة أنصار الإسلام، وتنظيم حراس الدين، وجميعها فصائل معادية لهيئة تحرير الشام؛ ما أشعل فتيل القتال بين التشكيل الجديد والهيئة. ولا سيما تنظيم “حراس الدين” الذي عارض الهيئة بشكل كبير جداً، لتشهد محاور غرب مدينة إدلب اشتباكات على مدار أيام، خلفت عشرات القتلى والجرحى.
وبعد مقتل نحو 30 عنصرًا من الطرفين، أنهت “تحرير الشام” غرفة عمليات “فاثبتوا”، من خلال إصدار بيان “غرفة عمليات الفتح المبين” في 26/6/2020، والذي ينص على “توحيد النشاطات العسكرية تحت إدارة “غرفة عمليات الفتح المبين” ومنع إنشاء أي غرفة عمليات أخرى أو تشكيل فصيل جديد.
على مدار سنوات الثورة السورية، شهدت جبهة تحرير الشام عدة تحولات فكرية إيديولوجية نقلتها من تنظيم متشدد إلى تنظيم أكثر تحررا وسلاسة يعمل على تحقيق مصالحه وتوزيع نفوذه، وخلال تلك التحولات نجحت “الهيئة” في التحول لتصبح القوة الأهم في شمال غرب سورية، بدعم من القوات التركية، إلا أن تقلب المصالح والاتفاقيات التي تبرمها تركيا مع قوى أخرى في سورية، يؤكدان أن الدعم الذي تحصل عليه “الهيئة” من تركيا ليس أبديًا وقد تتحول الأمور في أي وقت، ما يعني أن ما يحدث سياسيا بين الطرفين سينعكس على المدنيين الذين ليس لهم ناقة ولا جمل في صراع النفوذ على السلطة. ويطالب المرصد السوري جميع الجهات العسكرية بتجنيب المدنيين ويلات الاقتتال الداخلي والصراعات الخارجية وصراعات النفوذ تماما.
المرصد السوري لحقوق الانسان