إسراء النمر تكتب عن “المؤرخين الجدد” لسيرة نجيب محفوظ

المؤرِّخون الجُدُد لنجيب محفوظ: “سيرَتُهُ ما تزالُ منقوصَةً”..!

خلال العقد الماضي، ظهر عددٌ من المؤرّخين الجُدُد، الذين بذلوا مجهوداً كبيراً في سَبْرِ أغوار عوالم نجيب محفوظ، الذي دسَّ حياتَهُ ببراعةٍ في رواياته، ونثَرَها بخِفَّةٍ على ألسنة الحرافيش. هذا المجهود لا يُمْكن مقارنَتُهُ أبداً بمجهود المؤرّخين الذين سبقوهم، لسببٍ واحدٍ، أنهم لم يحظَوا بالقُرْبِ الكافي منه؛ لم يكونوا مثلاً من تلاميذه أو أصدقائه، وأكثرهم حظّاً، يملك صورةً أو اثنتين معه، أي أنَّ البحثَ عن جديدٍ في سيرَتِهِ، أو كشْفَ وجهٍ آخَرَ من وجوهِهِ، بمثابة مغامرةٍ، أو مخاطرةٍ، لأن محفوظ حظِيَ باهتمامٍ من النقّاد -المصريين والعرب- لم يحْظَ به أحدٌ من قبل، بالتالي يجب أن تُضيف كل كتابةٍ وليدةٍ عنه خيطاً إلى ثوبِهِ الفضفاض الأنيق.


بعضٌ من المؤرخين الجُدُد، وهم الكاتب الصحفي طارق الطاهر، والكاتب الصحفي محمد شُعير، والكاتب الصحفي أيمن الحكيم، تحدَّثوا في أولى فعاليات “منتدى الثقافة والإبداع” الذي يرأَسُهُ الطاهر، ويُنَظِّمُه قطاع صندوق التنمية الثقافية بدار الأوبرا المصرية، إذ حَمَلَتْ الندوة عنوان “نجيب محفوظ.. رؤى جديدة”، وأدارها الكاتب الصحفي إيهاب الحضري، الذي لم ينتظر لتَشْتَعِل الندوة من تلقاء نفسها، وطرح سؤالاً شائكاً: لماذا تُلاحِقُ اتّهاماتُ المتاجرة والانتفاع المادي والمعنوي كلَّ من يكتب عن محفوظ؟! ففي زمَنِه كان من الممكن أن نستوعب هذه الاتّهامات، لأن أغلب من كتَبوا عنه مِمَّن عايشوه.. وهل عدم المعايشة تجعلنا حياديّين حين نكتب، على اعتبار أن القُرْبَ يُوَلِّدُ نوعاً من الانحياز العاطفي؟.


سيرة الرواية المحرّمة

محمد شُعير، صاحب كتاب “أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرَّمة”، قال إن “تهمة المتاجرة بعيدةٌ تماماً عن باحثٍ عَكَفَ سنواتٍ أو أشْهُر ليكتب عن محفوظ أو غيره، لأنه بهذا المنطق، لن يُنَقِّبَ أحدٌ في حياة الكُتّاب، ولن نعرف الدوافع وراء سلوكهم لطريق الأدب، وبالنسبة لمحفوظ، فأرى أنه انتَفَعَ أيضاً مِمَّن حولَهُ، لأن علاقته بالواقع كانت قد انتهت بعد ضعْفِ بَصَرِهِ وسَمْعِهِ، وكان البديل أن يخرُج يومياً ويلتقي بأصدقائه من مختلف التيارات الفكرية والسياسية أو بأيّ شخصٍ يُريد الجلوس معه.. صحيحٌ أن الناس كانوا يشعرون بالفخر في حضرته، لكنَّهُ في المقابل كان يشعر أنه لا يستطيع الاستغناء عنهم، لأنهم مصدر اتِّصالِهِ بالواقع، الذي هو المُوَلِّدُ الرئيسي عنده للإبداع”.

وعمّا إذا كان البُعْد عن محفوظ أفادَهُم أكثر، يرى شُعير أن مُعايشة الباحث أو المؤرّخ للكاتب من عدَمِهِ ليس هو المهم، إنما المنهج أو الأسلوب الذي سيتِمُّ اعتمادُهُ، ففي كتابِهِ المُشار إليه أعلاه لم يُرِدْ أن يكون قائماً على أحكام نهائية ومطْلَقَة، وهو ما جَعَلَهُ يُعيد صياغته بعدما نَشَرَهُ بصورته الأولى في جريدة أخبار الأدب المصرية، إذ وجد أن تأكيدَهُ طيلة الوقت على أن “أولاد حارتنا” رواية مهمة، أو أن انحيازه لموقفٍ بعَيْنِهِ، أو رؤية بعينها، لن يُفيد، ولن يكون في صالح القارئ ومحفوظ معاً.

وأضاف: “كانت هناك تأويلات كثيرة لأولاد حارتنا، حسب الظرف السياسي الذي تمرّ به البلاد، ففي أواخر الخمسينيات كان الهجوم كثيفاً على محفوظ لأنه تمَّ تفسير الرواية على أنها سياسيةٌ، فخرج ينفي ذلك ويؤكِّد على أنها رواية عن تاريخ البشرية والأديان، حتى النقّاد كانوا يُغَيِّرون رؤيتهم، أبرزهم الدكتور محمود أمين العالم الذي تبنَّى الرؤية الدينية للرواية لكنه بعد محاولة اغتيال محفوظ في 14 تشرين الأول (أكتوبر) من العام 1995 قال إنها رواية ذات أبعاد سياسية وليست دينية”.

لم يكن بإمكان شُعير إذن سوى أن يقرأ السياق الذي صاحَبَ الرواية كما هو، وألّا يتعامل مع الأشخاص باعتبارهم “أبيض” أو “أسود”، فمحمد حسنين هيكل الذي دعَّمَ محفوظ وواصَلَ نشر حلقات أولاد حارتنا في جريدة الأهرام، هو نَفْسُهُ الذي رفض نشر رواية لإحسان عبد القدوس. كما أن إدانة محفوظ لأنه كان خائفاً طيلة الوقت من نشْر “أولاد حارتنا” في كتابٍ رغم موافقة الدولة في الثمانينيات دون الأخذ في الاعتبار أنه كان يفكِّر كثيراً في زوجته وبناته لكي لا يمسَّهُنَّ سوءٌ ستكون إدانةً مجحفةً.

واختتم شُعير كلامَهُ قائلاً: “أعتقد أن ما يُمَيِّزُنا عن الأجيال السابقة هو تعامُلُنا المختلف مع اللغة، فنحن نكتب دون أيّ اعتبارات”.


سيرة لا تزال منقوصة:

اتَّفَقَ طارق الطاهر، صاحب كتاب “نجيب محفوظ بختم النسر”، مع ما ذهب إليه شعير، قائلاً: “الجيل السابق كان يعمل على محفوظ نقديّاً، إنما نعمل نحن على محفوظ نفسِهِ، فبالرغم من الكتابات الكثيرة التي ظنَنّاها وافيةً مثل كتابات الروائي جمال الغيطاني والناقد رجاء النقّاش إلا أن سيرَتَهُ ما تزال منقوصَةً”.

وأضاف الطاهر: ما يؤكد أن القرب من الشخصيات العامة قد يكون مُضِرّاً ويجعل الرؤية قاصرةً على جوانب محددة، أن أحداً لم ينتَبِه طوال العقود الماضية إلى أن اسم نجيب محفوظ مركَّب، وأنه الوحيد الذي صدر له قرارٌ جمهوريٌّ بتعيينِهِ رئيساً لمجلس إدارة مؤسسة السينما في عهد جمال عبد الناصر باسمه المفرَد، وهذه واقعة لم تحْدُث في تاريخ الدولة المصرية لأنها دولة بيروقراطية، والدليل أن القرار كان متضمّناً تعيين سهير القلماوي رئيسة هيئة النشر والتأليف (هيئة الكتاب) باسمها الثلاثي.


يُعَدُّ طارق الطاهر أول من اكتَشَفَ هذا في كتابه المذكور سلفاً، إذ خاض رحلةً طويلةً في البحث عن الملف الوظيفي لنجيب محفوظ في مؤسسات الدولة، والذي دَفَعَهُ إلى ذلك وَلَعُهُ بسِحْر الأوراق المختومة وما تحْمِلُهُ من أسرار، ورغم أن هناك من كتب عن ملف محفوظ، أشهرهم مدكور ثابت في موسوعة السينما، إلا أنه الوحيد الذي استطاع أن يُنْقِذَ الملف من الضياع بجانب ربطِهِ بسيرة محفوظ.. قائلاً إن الطبعة الثانية من كتاب “نجيب محفوظ بختم النسر” ستحْمِلُ كتابةً وتحليلاً مغايرَيْن تماماً، لأن رؤيته للملفّ تطوَّرَتْ وتبدَّلَتْ بجانب حصولِهِ على أوراق رسمية جديدة تخص محفوظ.

وعن ملف “نجيب محفوظ..رقيباً”، الحاصل مؤخراً على جائزة دبي في فرع الصحافة الثقافية، أوضَحَ طارق الطاهر أن محفوظ لم يخْلَعْ ثوب الموظف، وهو ما تعجَّبَ له كثيرون لأن مبدعاً بحجْمِهِ سيصير رقيباً، رغم أنه لم ينحَزْ كليّةً إلى الحجب أو المنع، لكنه في الوقت نفسه كان يعمل للصالح العام، وتحت هذا المصطلح تحدُثُ أشياء كثيرة.


المتّهم نجيب محفوظ

وإلى “حضرة المتهم نجيب محفوظ” انتقلت الندوة، إذ وجَّهَ إيهاب الحضري هذا السؤال لصاحب الكتاب أيمن الحكيم: لماذا شعرتُ أنني لم أحصُلْ على الإشباع الكافي من الكتاب رغم أنه كان وافياً في الجزأَين التوثيقي والتحليلي معاً؟، فأجاب الحكيم أنه لم ينشر سوى رُبْع الكتاب لأن عدد الكلمات التي طلَبَها الناشر كانت أربعةً وعشرين ألف كلمة، وأنه كان لديه الكثير جداً ليقولَهُ، فقد سعى إليه الكتاب، ولم يسْعَ هو إليه.

وفسَّرَ ذلك باسترسالِهِ عن علاقته بأستاذه رجاء النقّاش، الذي طَلَبَ منه أن يُساعِدَهُ في تفريغ حواراته مع محفوظ والتي تجاوزت الخمسين ساعة، إذ اختاره الأخير لكي يكتب مذكّراته، وبالفعل صدر كتاب رجاء النقاش بعنوان “صفحات من مذكرات نجيب محفوظ”، ورغم أنه -أي النقّاش- كان حريصاً على ألا يورِّط محفوظ في أي مشكلة حتى لو صرَّحَ بشيءٍ عن رضا تام، إلا أن المشاكل أتت رغماً عنهما، فقد قال محفوظ إنه بعد وفاة والدته جاء أولاد أخته وأخذوا مقتنيات عديدة، واصفاً ما حدث بالسرقة الأهلية، وكان هذا الوصف محض مداعبةٍ، لكن ابن أخته محمود الكردي اعتبرها اتِّهاماً له ولعائلته وقام برفع قضية سبّ وقذف ضد محفوظ.
وكانت هذه القضية الأولى التي استطاع أيمن الحكيم أن يحصل على ملفّها الكامل بحكم ملاصقته للنقّاش ولمحامي محفوظ أحمد السيد عوضين، وأثناء قراءته للملفّ أدرَكَ أن الكردي كان يتصيّد لمحفوظ بعد اعترافه لرجاء النقّاش أنه اقتبس شخصية “سي السّيد” من زوج أخته، وأدرَكَ أيضاً مدى عبثية القضية خصوصاً أن الكردي بعد حصول محفوظ على جائزة نوبل عام 1988 عرض عليه أن يسافر إلى السويد بالنيابة عنه ليتسلَّمَ الجائزة، وهو ما رَفَضَهُ محفوظ بحَسْم.
أمّا القضية الثانية فأخذ أيمن الحكيم ملفّها مباشرةً من المحامي أحمد السيد عوضين، والتي رَفَعَها أحد السلفيين معتمداً أيضاً على دعابةٍ جاءت في ملفّ التحقيق معه بعد حادث الاغتيال، إذ حَكَى محفوظ لوكيل النيابة أنه من شدة الإعياء لم ينتبه إلى أن الأطباء أجروا له العملية، فسأل زوجته عن موعدها، فأخبَرَتْهُ أنها أُجْريَتْ له بالفعل، ليردَّ قائلاً: “يا خبر.. واضح إن الجبلاوي راضي عني»، فتمَّ اتهامُهُ بازدراء الأديان وإهانة الذات العليّة، ومن ثم طالبوا بالتفريق بينه وبين زوجته كما حدث مع المفكر نصر حامد أبو زيد”.


لتتبقّى القضية الثالثة والأخيرة في كتاب “حضرة المتهم نجيب محفوظ”، والتي رفعها رجل المخابرات الشهير صلاح نصر على فيلم “الكرنك” بتهمة الإساءة له، إذ رأى أنه المقصود بشخصية خالد صفوان الذي قام بدوره الممثل كمال الشناوي، وتم إدراج محفوظ ضمن المتهمين باعتباره صاحب رواية “الكرنك”.

نقلا عن موقع منصة الاستقلال الثقافية

https://dipc.ps/index.html

اترك رد