الدين في أمريكا ودوره في الانتخابات
مركز الإمارات للسياسات
تعتبر الولايات المتحدة الأكثر تديناً بين الدول الغربية المتقدمة، وبحسب دراسة لمؤسسة غالوب عام 2016، فإن 80% من الأمريكيين يُعرِّفون أنفسهم بأنهم “متدينون”. وعلى الرغم من أن السياسة الأمريكية تقوم على مبدأ الفصل التام بين الكنيسة والدولة، إلا أن تأثير المتدينين واضح في اختيار الرؤساء، وها هو يلعب دوراً مهماً في الحملات الانتخابية الممهدة لسباق الخريف الرئاسي. وبحسب مركز بيو الأمريكي للأبحاث، فإن 88% من أعضاء الكونغرس، يعرفون عن أنفسهم بأنهم مسيحيين، بحسب استطلاع أجري عام 2019. كما أن نصف الناخبين الأمريكيين تقريباً يؤمنون بوجوب تمتُّع الرئيس المنتخب “بمعتقدات دينية راسخة”. فيما يرى ثلث الأمريكيين أن السياسات الحكومية يجب أن تدعم القيم الدينية. لكن إلى أي مدى سيكون العامل الديني مؤثراً وفاعلاً في حسم نتيجة الانتخابات الرئاسية المقبلة؟
أبعاد توظيف العامل الديني في الحملات الانتخابية
1. ترامب وتوجهاته الإنجيلية في السياستين الداخلية والخارجية:
لا يعرف عن الرئيس دونالد ترامب ممارسته لأي ديانة، وهو لا يمثل شخصية تتمتع بالقيم الأخلاقية أو الدينية التي يدافع عنها المسيحيون المحافظون؛ فهو رجل مطلق، وارتبط اسمه بفضائح جنسية. ورغم ذلك، فإنه يحظى بشعبية كبيرة وسط الإنجيليين المتجددين (Born again)، وانعكس ذلك على خيارات ترامب خلال ولايته الحالية، وجاءت قراراته متسقةً مع مطالب تلك القاعدة الشعبية وأبرزها الدعم المطلق لإسرائيل بوصفها أرضاً للشعب اليهودي، لأنّ نبوءة إعادة بناء أورشليم ضرورية لعودة المسيح، بحسب معتقداتهم.
وتُظهِر استطلاعات الرأي عدم اكتراث الإنجيليين المتجددين بسيرة ترامب الذاتية، بقدر إيمانهم بأنّه قادر على تحقيق نبوءة ما. ووفقاً لاستطلاع أجراه معهد أبحاث الديانة العام، أبدى 77% من الجمهوريين الإنجيليين البيض رضاهم عن أداء ترمب، ويعارض 98% منهم محاكمته ومحاولة عزله من منصبه.
والمتأمل في تعيينات إدارة ترامب سيجد أن نائبه بينس ومستشاره زوج ابنته كوشنير ووزير خارجيته بومبيو وسفيره في إسرائيل فريدمان؛ جُلهم من أقصى اليمين المتطرف ومن المولعِين بإسرائيل، وهم الذين يعتنقون فكرة “أن الله قد أرسل ترمب لإنقاذ “إسرائيل” من التهديدات”، في وقتٍ قال فيه نائبُه بينس: “شغفي بـ”إسرائيل” ينبع من إيماني المسيحي”.
وكان الإنجيليون أشد الداعمين والمؤيدين لقرار ترامب باعتبار القدس ككل عاصمة إسرائيل. كما شهدت مراسم افتتاح السفارة الأمريكية في مايو 2018 قُداساً للقس الإنجيلي المتعصّب روبرت جيفرس المعروف بتبنّيه مواقف معادية للمسلمين.
وبالرغم من عدم تبنِّيه لإيمان الإنجيليين بشكل شخصي، إلا أن ترامب متحالف معهم، ويحيط نفسه بواعظين مشهورين في أوساطهم، من بينهم مستشارته الروحية الخاصة باولا وايت، إلى جانب المربِّي وعالم النفس جيمس دابسون، والواعظ فرانكلين غراهام، ابن بيلي غراهام المستشار الروحي للعديد من رؤساء الولايات المتحدة.
وحين رفع ترامب الإنجيل أمام كنيسة القديس يوحنا في واشنطن، على بعد شارع من البيت الأبيض، بعد أيام على مقتل جورج فلويد في 25 مايو 2020، لم يكن يفعل ذلك لقناعة دينية، بل في إطار استمالته للناخبين الإنجيليين، الراغبين بتجديد ولايته، علّهم يحققون مطالب إضافية أساسية في معتقداتهم، منها رفض الإجهاض، ومنع زواج المثليين، وإدخال التعليم الديني إلى المناهج الدراسية. وهاجم ترامب منافسه على الرئاسة جون بايدن مطلع أغسطس 2020، واتهمه بأنّه “يؤذي الله والإنجيل”.
2. بايدن بين التزامه الكاثوليكي وتوجهاته الليبرالية العلمانية:
يعد المرشح الديمقراطي جو بايدن الكاثوليكي الوحيد في التاريخ الأمريكي الذي تولى منصب نائب الرئيس وكان ذلك في عهد أوباما. وهو رابع مرشح كاثوليكي يتأهل للسباق الرئاسي، وكلهم من الحزب الديمقراطي. الأول كان آل سميث، حاكم نيويورك عام 1928، ثم جون كينيدي عام 1960، وهو الوحيد الذي فاز وجرى اغتياله في نوفمبر 1963. والثالث هو وزير الخارجية السابق جون كيري عام 2004.
ويُحاول بايدن الذي اختار كامالا هاريس نائبةً له، وهي كاثوليكية أيضاً وزوجها يهودي، أن يستثمر تأييد الطائفة الكاثوليكية لصالحه في التصويت له في الانتخابات المقبلة. ومع أن بايدن يُحيِّد إيمانه الشخصي عن السياسة، فيصوت مثلاً لصالح قوانين الإجهاض، وزواج المثليين، إلا أن عناوين حملته الانتخابية بدأت تكرس الصراع الديني المحتدم على خلفية انتخابات الرئاسة 2020؛ فها هي ترفع شعار “استعادة روح أمريكا”.
واليوم، لوحِظَ أن الحزب الديمقراطي يلجأ في الحشد لحملة بايدن، إلى أدبيات غريبة عن حملاته السابقة، وكأنّه بات واعياً للدور الذي يلعبه الدين في المزاج الشعبي. ويَظهَر ذلك من خلال تعويل حملة بايدن بشكل كبير على صورته كرجل مؤمن وتقي، واجه وفاة زوجته السابقة، واثنين من أولاده، بصلابة.
كما التقى بايدن بأكثر من حِبْر أعظم، كان آخرهم البابا فرنسيس، كما يَحكي باستمرار عن الراهبات اللواتي أثَّرن في حياته، ويقال إنه كان يحمل المسبحة في يده خلال الاجتماعات المهمة، أو المحطات التاريخية الصعبة التي عايشها خلال ولايته كنائب لباراك أوباما.
ومن ناحية ثانية، تعهَّد بايدن، في 20 يوليو 2020، بمعالجة احتياجات ومخاوف الجاليات الأمريكية المسلمة بمجرد أن يصبح رئيساً، واعداً بتعيين أفراد مسلمين في إدارته المحتملة والعمل مع الكونغرس لتمرير تشريعات جرائم الكراهية المتعثِّرة إذا تم انتخابه رئيساً.
حدود تأثير العامل الديني في الانتخابات الرئاسية الأمريكية
من المؤكد أن العامل الديني سيكون له دوراً كبيراً في التصويت خلال الانتخابات المقبلة، لكنه لن يكون العامل الحاسم بالضرورة نظراً للاعتبارات التالية:
1. تراجع الاهتمام بالعامل الديني في اختيار أولوية المرشح:
يوضح الدكتور فرانك نيوبورت الخبير في استطلاعات الرأي بمؤسسة غالوب أن العامل الديني كان مهماً ومؤثراً في الماضي، أما الآن فلم يعد يحظى بقيمة كبيرة، وتراجعت أهمية الانشغال بديانة المرشح؛ فرويداً رويداً بدأ الخوف من وجود مرشح غير بروتستانتي يتراجع إلى أن تلاشى تقريباً. إذ لم يواجه جون كيري، مثلاً، أي مشكلة بسبب انتمائه الديني، وهو ما تكرر مع ميت رومني، وهو مرشح جمهوري خاض الانتخابات أمام أوباما في الولاية الأولى، وكان مرمونياً، وهي طائفة مسيحية صغيرة. ولم تكن هناك أهمية تذكر لديانة جون ليبرمان اليهودي عندما ترشَّح نائباً للرئيس مع آل جور، في انتخابات 2000.
وربما يكون السبب في هذا التطور أن المجتمع الأمريكي أصبح أكثر نضجاً أو تسامحاً. وتؤكد الاستطلاعات التي تُجريها “غالوب” بانتظام منذ 1937، أن ما جرى يمثل تحوُّلاً راسخاً وثابتاً في توجه الرأي العام، وليس أحد تقلباته العارضة. ففي ذلك العام، قال 30% من الأمريكيين، إنهم لن يصوتوا لمرشح كاثوليكي، ثم تراجعت النسبة إلى 25% عام 1959. وبعد انتخاب كينيدي عام 1960 بلغت 13%، ثم هبطت إلى أقل من 10% عام 1967، وهي الآن 4% فقط.
2. شيوع قيم العلمانية في أوساط المجتمع الأمريكي:
ثمة ظواهر عديدة تدعم الاعتقاد بأن العلمانية تتقدم باطراد داخل المجتمع الأمريكي؛ فبعد ما يقرب من 240 عاماً من تأسيس الدولة الأمريكية على أسسٍ جوهرها قيم وأفكار بروتستانتية بيضاء، إلا أن التغيرات الكبرى التي أدت إلى قبول مجتمعي بحقوق المثليين جنسياً، أو بحق الإجهاض عند النساء، أو في المساواة الكاملة بين كل الأمريكيين بغض النظر عن اللون أو الدين أو الجنس تعكس تحولاً بارزاً نحو العلمانية في المجتمع الأمريكي. فنسب من لا ينتمون لأي ديانة باتت تتجاوز نسبة 22.8% من عدد السكان (340 مليون نسمة). وقد هاجر لأمريكا خلال نصف القرن الماضي نحو 60 مليوناً من أمريكا الوسطى وآسيا بصفة أساسية، وهو ما جعل أمريكا وناخبيها أكثر تنوعاً واختلافاً عما يعتقد كثيرون.
3. تزايد أهمية العامل العنصري والعرقي في تحديد أولويات الناخبين السود واللاتينيين:
رغم أن القبول بمرشح كاثوليكي يشكل نقطة مهمة لصالح بايدن، لكن انتماءه لهذه الطائفة التي تمثل 23% من الناخبين لا يعني بالضرورة استقطاب أصواتها لعدة أسباب، أهمها:
- أنها لا تشكل في العادة كتلة انتخابية واحدة متماسكة. فالتركيبة العرقية للكاثوليك هي التي ستُحدِّد لمن تذهب أصواتهم. ووفقاً للإحصائيات، فإن ثلثهم تقريباً ينحدرون من أصول أمريكية لاتينية وسيصوتون لبايدن، إلا أن 56% من الكاثوليك البيض غير اللاتينيين يؤيدون الجمهوريين وستذهب أصواتهم لترامب.
- يشكل مدى الالتزام الديني أيضاً عاملاً مهماً، وهو ليس في صالح بايدن الذي من المرجَّح أنه سيخسر أصوات المتدينين لسببين؛ الأول أنهم لا يعتبرونه كاثوليكياً بما يكفي. والثاني، وهو الأهم، أنهم يدينون بقوة تأييده للإجهاض وزواج المثليين.
ومن ناحية أخرى، لا يعتبر الكثير من البروتستانت الأمريكيين نظرائهم الكاثوليك مسيحيين مثلهم. ولم يعتبروا كذلك السود الأفارقة من أتباع البروتستانتية أخوة لهم فى الديانة. كما أن “الكنيسة السوداء”، ورغم أنها تُصنَّف ضمن الكنائس البروتستانتية، لكن تصويتها يكون على أساس عرقي؛ وهو ما يبدو محتملاً بشكل كبير بعد قضية مقتل جورج فلويد، وما فجَّره من مظاهرات واحتجاجات مناهضة للعنصرية ولسياسات ترامب اليمينية. وخلال انتخابات عام 2016، حصد ترامب 81% من أصوات الناخبين الإنجيليين البيض، وتفوَّق بين الكاثوليك البيض، فيما حصد أصواتاً أقل وسط الإنجيليين من أصول لاتينية أو أفريقية.
4. حيرة اليهود الأمريكيين بين ترامب، الداعم الأكبر لإسرائيل، وتوجهاته اليمينية في الداخل:
يلعب اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة دوراً بارزاً في ترجيح حظوظ أيّ المرشحين للفوز بالرئاسة، لنفوذه المالي والإعلامي الكبيرين. ومنذ عهد الرئيس وودرو ويلسون (1912-1920) اتجه معظم اليهود لمنح الدعم والتصويت للحزب الديمقراطي، وحافظ كثيرٌ من اليهود على هذا التوجُّه الانتخابي حتى اليوم. وكان أوباما آخر رئيس دعمه اليهود واستطاع الوصول للبيت الأبيض، وفي الانتخابات الرئاسية عام 2016، كان بيرني ساندرز هو أول مرشح يهودي يصل إلى المراحل النهائية من الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
لكن في الانتخابات المقبلة سيجد الصوت اليهودي نفسه منقسماً بين مبادئه التي تتماهي مع الحزب الديمقراطي في المساواة وعدم التمييز بين الأديان والطوائف والأعراق، والتي تتعارض مع توجهات ترامب اليمينية في الداخل، وبين مصالحه التي تتقاطع مع سياسات الرئيس ترامب الداعمة بقوة لإسرائيل في الخارج.
خلاصة واستنتاجات
- مع أن السياسة الأمريكية تقوم على مبدأ الفصل التام بين الكنيسة والدولة، إلا أن تأثير المتدينين يبدو واضحاً في اختيار الرؤساء، وقد لوحظ أن العامل الديني أخذ يلعب دوراً مهماً في الحملات الانتخابية للمرشَّحين المُمهِّدة لسباق الخريف الرئاسي.
- سيكون للعامل الديني دوراً كبيراً في التصويت لأيٍّ من المُرشَّحينِ الجمهوري (ترامب) أو الديمقراطي (بايدن) خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة، لكنه لن يكون العامل الحاسم بالضرورة نظراً لتراجع الاهتمام بالعامل الديني في اختيار أولوية المرشح لمنصب الرئيس أو نائبه، وانتشار قيم العلمانية في المجتمع الأمريكي، وتزايد أهمية العامل العنصري والعرقي في تحديد أولويات الناخبين السود واللاتينيين، بالإضافة إلى حيرة اليهود الأمريكيين بين ترامب، الداعم الأكبر لإسرائيل، وتوجهاته اليمينية في الداخل