رسالة من أبي
رسالة من أبي
…………….
حاولت ان اقنعه بالبقاء في البيت الذي بناه والعدول عن ترك كل شيء وراءه . . وعندما رفض ، حبسته داخل غرفته ، وأغلقت عليه الباب . وكنوع من الاحتجاج ، فقد امتنع عن الاكل الذي كنا نقدمه له والماء ايضا. غدا نحيلا يكلم نفسه باستمرار، ومع مرور الوقت اصابه غثيان معوي مرتبط ارتباطا كليا بحالته النفسية السيئة ، واعترته كوابيس ليلية ، وجحوظ في العينين. في يوم ربيعي دافئ ، فتحت له الباب وصرخت : اذهب الى العالم فبيتنا لا يمكن ان يكون مدفنا لك أيها العجوز . وحين همّ بالمغادرة تكلم بنبرة حزينة : لقد انتهت دورة حياتي بينكم ، سأكملها في مكان آخر . غادرنا وهو يحمل كيس بحار مملوء بأغراضه الشخصية وابتسامة ازدهرت فوق شفتيه المضمومتين .مرت الايام والشهور والسنين ، ولم نسمع اية اخبار إخبار عن أبي . لقد اعتبرته في عداد الأموات ، بعد انتشاء وباء كورونا في العالم الذي يصيب كبار السن والمرضى . دون سابق إنذار ، وصلتني رسالة منه ، سلمني إياها ساعي البريد . فتحتها بلهفة طفل ، وقرأت ما جاء فيها :
ابني الحبيب ..
انا بخير وسأتم عامي الثالث هنا بعيدا عنكم ، ربما ستلحظ عندما تتقدم بالعمر ،كم يحتاج الواحد منا ان يكون مستقلا ، قويا ، مفعما بالحياة ، مع رفض فكرة الوحدة المطبقة التي تثقل امثالنا نحن المترنحين على حافة القبر . لقد عدت الى الطبيعة الاولى ، التي هي جوهري الحقيقي . تعرف تماما ما هو الفرق بين الجوهري والعارض بالتأكيد؟ اريد أن أعلمك انه صار عندي اصدقاء كثر هنا. لااقصد طبعا البشر بل حيوانات دربتها بنفسي ، غزال ، ذئب ، نعامة ، ثعلب ، غرير العسل ، وقد ربيت صقرا رمادي اللون . إنها مجتمعي المصغر الآن . احبهم جدا ويحبونني ايضا .العائلة تكبر باستمرار وتتسع في محيط الغابة .
لا اعرف ماذا يحدث في الخارج عندكم، ولا اريد ان اعرف ،لان الذي عرفته من قبل عن الجنس البشري جعلني انفر من مستلزمات هذا المصطلح المقيت. ان اتصالي بالخارج ، كان فقط يوم ارسلت لك هذه الرسالة . اريدك ان تعرف أنني أرغب بالموت هنا ، كما تموت الحيوانات البرية في الهواء الطلق ، دون الحاجة لجنازات وتراتيل مزيفة وجوقات مختصة بالتمثيل المفتعل ودون الحاجة لبيت اسمنتي أحجر داخله.
والدك الذي يحبك دائما وأبدا : م _ د
12_ 8 _ 2020