سعود القحطاني يكتب عن الدولة الوطنية والشرعية الأيديولوجية

يقول فارس آل شويل الزهراني في أحد آخر بياناته -قبل القبض عليه- إن جنسيته السعودية موضوعة تحت قدميه، وإنه لا يعترف بمفهوم الجنسية، وحقيقة، فقد كان فارس آل شويل في عبارته هذه، ليس إلا مستجلباً ومسترجعاً لعبارة أخرى أطلقها أحد مشايخ الإسلام الحركي السعودي المعروفين، الذي هو نتيجة لتماهيه مع الفكر الإسلاموي لا يؤمن بالجنسية وما يترتب عليها على الإطلاق، مما دفعه للقول وعن إيمان: أن الوطنية ليست إلا عنصرية جاهلية وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت قدميه !

الخطاب الإسلاموي بطبيعته لا يؤمن بالدولة القطرية، ولا يعترف بالحدود الدولية، وقد قام بالأساس على وهم إعادة الخلافة الإسلامية إلى وضعها السابق، وهو في أساسه هذا، لا يعير اهتماماً للمتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مثله في ذلك مثل غيره من الخطابات الأممية، كالخطاب الماركسي على سبيل المثال.

إن الدولة القطرية تشكل في واقعها تطوراً في العلاقات الدولية التي تمخضت عن معاهدة صلح وستفاليا عام 1648، كان نتيجة هذا التطور أن أصبحت الدولة الوطنية هي الأساس المعترف به مقابل الوضع السابق المتمثل بالإمبراطور الذي يحكم بمباركة البابا، وكثير من المؤرخين يعدون هذا التاريخ نقطة النهاية لمرحلة العصور الوسطى.

كان دخول العرب والمسلمين في مرحلة الدولة الوطنية دخولاً متأخراً كما يعلم الجميع، والدكتور تركي الحمد يشير في ورقة قيمة له بعنوان (تكوين الدولة القطرية – المنظور الوحدوي) إلى أن نشأة الدولة القطرية العربية كانت بناء على مصادر ثلاثة : الخصوصية القطرية التاريخية (مثل مصر)، وحركات التوحيد القطرية (مثل السعودية)، والخلق الاستعماري الكامل (مثل بعض دول المشرق العربي التي تعرضت لتفتيت استعماري).

إن بناء الدولة السعودية كان كما نعلم جميعاً نتيجة لحركة كفاحية توحيدية تراجيدية، شقت طريقها بكثير من الجهد والتعب والدماء والدموع، ولم تكن أبداً بالعمل السهل، ولم تعتمد بنشأتها على خصوصية تاريخية أو تفتيت استعماري، بل الحقيقة تقول وتؤكد على أن العامل الخارجي كان هو السبب الرئيس لتوقف حدود الدولة عند حدها الراهن، ولولا حصافة الملك المؤسس عبدالعزيز رحمه الله، وفهمه لمجريات اللعبة السياسية، وتوقفه عند حدود الدولة الحالية، لكان وجود الدولة نفسه مهدداً بالتفكك والانهيار.

كان خلق الدولة السعودية عملاً شاقاً بالفعل، وقد تكلل هذا الجهد بالنجاح والتوفيق، وولدت الدولة، وحازت على اعتراف المجتمع الدولي، وتمتعت بالشرعية الدولية، وصار لها مكانها المرموق في النظام العالمي.

من المسلم به، أن الأيديولوجيا كانت عاملاً رئيساً في نشوء الدولة، ولكن الحقيقة تقول إن شرعية الدولة واستمرارها كان يعود لأسباب عديدة أهمها: القوة والإنجاز ووجود العائلة المالكة وبقائها كرمز للكيان الوحدوي، هذا الكلام لا يعجب الذين يفسرون الظواهر والوقائع تفسيراً ايديولوجياً محضا، وعليه فهم يرون أن الايديولوجيا كانت ومازالت السبب الوحيد لبقاء الدولة وتماسكها، والحقيقة إن هذا القول زعم غير دقيق، يعرف هوانه كل مطلع على مجريات التاريخ السعودي الحديث، هذا التاريخ، الذي حدثنا بأن الايديولوجيا وأن كانت عاملاً مهماً في التأسيس، غير أنها كانت في أحوال أخرى سبباً للضعف وتكالب الأعداء والتفتت والتفكك في نهاية المطاف، كما كان الوضع في الدولة السعودية الأولى مثلاً.

إن الايديولوجيا بطبيعتها، فكر أحادي متقوقع على ذاته، لا يتغير بتغير الظروف والأحوال، وهي وإن نجحت في تأسيس الدول، غير أنها لم تكن أبداً سبباً في استمراريتها وبقائها، والدولة التي تكتفي بالأيديولوجيا مبرراً لشرعيتها كان السقوط في نهاية الأمر هو مصيرها المحتوم.

في بلادنا، ومنذ مرحلة التأسيس وإلى اليوم، كانت هناك شرعيتان تستند عليهما الدولة في وجودها: الشرعية الأيديولوجية على المستوى النظري والإعلامي، وهذه الشرعية كانت سبباً لأزمات كثيرة تعرضت لها البلاد، وشرعية واقعية حقيقية تمثلت بقوة السلطة الحاكمة، وتلبيتها لحاجات المواطن، وإنجازاتها الملموسة والمشاهدة على أرض الواقع، وكانت الأسرة الحاكمة هي الرمز الذي تستند عليه هذه الشرعية في منجزاتها، وكانت هي – بحق – الشرعية الحقيقية التي حافظت على البلاد وبقاء وحدتها وتماسكها، وقد آن لهذه الشرعية أن تحل محل الشرعية الايديولوجية على المستويين النظري والإعلامي، وذلك بهدف أن تكون الأمور واضحة للجميع، وأن يقطع الطريق على مزايدة المزايدين في الايديولوجيا، الذين علمتنا التجارب، أن قيمة مزايدتهم كانت باهظة على الوطن والمواطن في آنٍ واحد.

من مشكلاتنا في المملكة، أنه ومنذ مرحلة التأسيس وإلى اليوم، لم يظهر في البلاد تيار وطني نشط، إطاره الدولة الوطنية القائمة، وبقيت دولتنا رهينة للأيديولوجيات الأممية والوحدويات القومية، بدءاً من ايديولوجية الدولة الرسمية: السلفية التقليدية، ومروراً بغيرها من الايديولوجيات التي ظهرت على الساحة السعودية في السر والعلن، مثل: الصحوة الإسلامية، والشيوعية، والناصرية، والبعثية.

من مشكلاتنا في المملكة، أنه ومنذ مرحلة التأسيس وإلى اليوم، لم يظهر في البلاد تيار وطني نشط، إطاره الدولة الوطنية القائمة، وبقيت دولتنا رهينة للأيديولوجيات الأممية والوحدويات القومية، بدءاً من ايديولوجية الدولة الرسمية: السلفية التقليدية، ومروراً بغيرها من الايديولوجيات التي ظهرت على الساحة السعودية في السر والعلن، مثل: الصحوة الإسلامية، والشيوعية، والناصرية، والبعثية.

إن الدين الإسلامي العظيم أكبر من أن يختزل بمذهب أو رؤية معينة، ومن الواجب أن تكون نظرتنا للإسلام أكثر تجرداً، وأن نحترم ونتعايش مع التعددية المذهبية كواقع تفرضه طبيعة الأشياء، ويؤكده منطق التاريخ، ومن اللازم أن نعلم أن الخلافة مسألة قد انتهت، وأن علاقات الدول بعضها ببعض، تحكمها المصالح في المقام الأول والأخير، ومن المحتم أن لا تكون بلادنا نشازاً في هذا الواقع، الذي فرضته ظروف العصر، حتى صار هو واقع الحال الذي لابد من فهمه ومعايشته والتكيف معه.

مشكلة الإيديولوجيات الأممية والقومية أنها تقفز على واقع التاريخ، وتمارس حركة نكوص واع في أحيان، وغير واع في أحيان أخرى، فهي تريد بناء الامبراطورية، بينما نحن كبشر قد تجاوزنا تاريخياً هذه المرحلة، ودخلنا في مرحلة جديدة هي مرحلة الدولة، هذه المفارقة أشار إليها كثير من المهتمين، الذين أكدوا أن هزيمة 67، وتفكك الاتحاد السوفيتي، وسقوط طالبان، والقبض على صدام حسين، كل هذه الأشياء هي في حقيقتها، ليست إلا هزيمة للفكر الأممي والقومي في العالم، وتأكيد على أن الدولة القطرية ولدت لتبقى على ضوء الظروف والمتغيرات الحالية.

صحيح أن عصرنا هذا هو عصر التكتلات الكبرى، غير أن الصحيح أيضاً أن هذه التكتلات تنطلق من واقع شرعية الدولة القطرية، وتقوم على أساس مصلحي بحت، وهذا ما نفتقده في ثقافتنا.

لقد كان لهيمنة الايديولوجيات الأممية والقومية دور بارز في تغييب الوطنية الحقة في نفوس الكثير من أبنائنا للأسف الشديد، حتى اضطررنا أن ندرس الوطنية في المدارس، من دون أن يعرف القائمون كيف يمكن أن يلقن المواطن كيف يحب بلاده، لذا، ظلت هذه المادة وحتى اليوم – كما أعلم – من غير منهج واضح ومحدد من قبل الوزارة.

إن الحل بتقديري يكمن في الاعتراف بأن مفهوم الأمة – أياً كانت هذه الأمة- لم يعد صالحاً في وقتنا الحالي، كما لابد من الإقرار بأننا مواطنون متساوون في دولة ذات حدود محددة، وواضحة، ومعروفة، وأن هذا الأمر يكسبنا حقوقاً ويستلزم علينا واجبات (حقوق وواجبات المواطن)، وأن هذه الحقوق والواجبات لا تختلف باختلاف المذهب أو الإقليم أو القبيلة أو انتفاء المحتد القبلي، وأن علاقتنا مع الدول الأخرى تقوم في الأساس الأول على مصلحة هذا الوطن، وأن ولاءنا لهذا الوطن أمر لا يقبل الجدل ولا المنازعة، وأن الولاء للوطن ليس فيه بأي شكل تعارض مع الدين الإسلامي الحنيف.
أعرف أن مثل هذا الطرح سيواجه بحملة معارضة شديدة، وسيتعرض صاحبه للاتهامات المعلبة المختلقة، التي صارت ديدناً يمارسه الحزبيون في مواجهة خصومهم، غير أن لا أجمل في نظري، من أن يهاجم الإنسان بسبب حبه لوطنه وولائه له، وكفى بهذا فخراً.

نقلا عن جريدة الرياض

اترك رد