ضياع في استنبول١٥
في المصح أفرغت غضبي وصراخي ، ولعنت هذه المدينة ، صرت أغني : سوريا يا حبيبتي .. أنا مش كافر.. موطني . ناديت ابنتي طويلا .كنت أريدها . هل قتلت حقا كما قتلت أختي؟ . استنفر الممرضون والحراس والأطباء ، كنت الفتاة المشاغبة ، التي كسرت وحطمت ، ولم يكن يسيطرون علي ، إلا بحقني بإبر مهدئة ، أو حين إفراغ التيار الكهربائي في جسدي .
في أحد الصباحات استيقظت ، فوجدت امرأة عجوز ميتة على السرير المقابل لسريري . كانت كقرمة يابسة تسوست بفعل ديدان الزمن التي توغلت في قشورها لتبني مملكة منخورة داخلها .ابقوا على العجوز أمامي مدة ساعتين من الزمن . لم أفكر بالموت لأني كنت ميتة ، هل سيخيفونني بشيء أملكه في الأصل . كانوا ينظرون إلي من نافذة الممر . حاولت أن أنهض ولم أستطع فقد كنت مقيدة بالسرير من يدي.
وعندما رأوا أنني كنت هادئة هدوء الموتى ، جاؤوا بحمالة وأخذوا العجوز اليابسة لقد وجدت في هذا المصح ما فقدته مدة شهرين متتاليين ، اللباس ، الطعام ، الحمام، سرير أنام عليه ، ولكنني فقدت ابنتي التي لم تعش طفولتها كما يليق بطفلة أن تعيش، لا في سوريا ولا في لبنان ولا في تركيا . كانت هي أنا في معاناتي وتشردي وضياعي ، تحمل ما أحمل من أوجاع وفقدان للعائلة والوطن . يا لطفلتي الصغيرة المسكينة . لماذا حكم عليك بالعيش المرير والتشرد والموت المجاني؟ .انتابني بكاء فجائعي تلك اللحظة ، صرخت بغضب جارف :أريد ابنتي ،أرجعوا توءمي في الألم طافت دموعي بغزارة وتصدع صوتي وتشققت ذاكرتي وأحاسيسي . نقلوني إثر ذلك إلى غرفة كبيرة تعج بالأسرة المصفوفة بشكل طولي ، وعلى سرير مخصص لي نمت رغم الضجيج الكبير والزعيق والرقص والثرثرة ، كنت بحاجة لسماع صوت بشري يشبهني في محنتي وألمي ، ورغم الشخير العالي والكلام أثناء النوم فلم يفقدني كل هذا لذة الغطس في المخدة البيضاء والنوم بعمق . مر شهر علي في المصح، كنت آكل وأشرب وأستحم وأنام كأي كائن حيواني . صورة المرأة القديمة اختفت من على بلور ذاكرتي ، مثل بخار متصاعد من قاع جمجمتي ، إنه الألم الذي كان يغلي ويفور ليغرق كل شيء في النهاية .