علي العميم يكتب عن افتراءات الإسلاميين

تكاد تكون كلمة «افتراءات» من كثرة استخدام الإسلاميين لها في عناوين كتبهم ومقالاتهم وفي متونها اصطلاحاً خاصاً بهم يستعملونها إزاء المستشرقين، إلى حد أنَّ هذه الكلمة، بسبب استعمالهم المفرط لها إزاء المستشرقين، صارت ملتصقة بهم، وجزءاً من اسمهم عند جمهور الكتاب الإسلامي. فالمستشرق عندهم هو أبداً ودائماً مفترٍ. والافتراءات هي الهوية الثابتة والجامعة لكل المستشرقين.
ولقد استعملتُ كلمة «افتراءات» في عنوان المقالة، ليس بغرض المشاكلة البلاغية لعنوانهم الشهير المتكرر «افتراءات المستشرقين»، وإنَّما لأنَّهم أولى من غيرهم بأن تُنسَب الافتراءات إليهم. فالافتراء – يا للأسف – عندهم نهج ومذهب، وعمل جماعي متواتر تواطأوا على نسجه، كبارهم وصغارهم، وعمر طرحهم لم يبلغ، بعد، سن الرشد والتكليف في أول أربعينات القرن الماضي.
لماذا يفرط كثير من الإسلاميين في استعمال كلمة «افتراءات» إزاء المستشرقين وإزاء المخالفين لهم مع إن الافتراء هو ديدنهم، والافتراءات هم أهلها؟!
ربما كانت حيلة وآلية نفسية يسميها فرويد «الإسقاط النفسي». وهي هجوم يحمي به الفرد نفسه؛ بإلقاء عيوبه ونقائصه على الآخر!


يصف كثير من الإسلاميين غيرهم بلفظ ديني، هو «الضالّون». ويرمونهم بالضلالة بمعناها الديني. ولإعادة الحق إلى نصابه، أصارحهم بأنهم – بالمعنى السياسي والثقافي والمعرفي – هم الضالون المضلِّلون. مضلِّلون بما كتبوه عن الغرب. ومضلِّلون بحديثهم عن نوع علاقتهم بالغرب السياسي. فالمعلَن أن علاقتهم به علاقة صراعية وعدائية من الناحية السياسية. وغير المعلَن أن علاقتهم به – على مستوى قادتهم – هي علاقة الخادم والتابع براعيه وكفيله وسيده. والمثير والمدهش في هذه العلاقة الذيلية والاستزلامية لقادتهم مع الغرب السياسي أنه، مع أنها ناهزت الثلاثة وسبعين عاماً، وأنها قاربت العُمْرَين، إلا أن الكِبَر لم يمسّها، فما زالت في ميعة النشاط، وما زال ماء الشباب يترقرق في جانبيها، وبخاصة في السنوات الأخيرة!
ومضلِّلون بما كتبوه عن الحكومات في البلدان العربية والبلدان الإسلامية، وعن أوضاع مجتمعاتها. ومضلِّلون بما كتبوه عن الأدباء والمثقفين والتيارات والأحزاب السياسية والفكرية في العالم العربي والعالم الإسلامي. ومضلّلون بما كتبوه عن بعض التيارات السياسية والفكرية في الغرب، وعن الثقافة والفكر عموماً. ومضلِّلون بما كتبوه عن التاريخ الإسلامي، وعن تاريخهم هم.
تحدثتُ في المقال السابق عن عقم الثيمة النقدية التي استعملها الدكتور حمزة المزيني، في مناقشته للإسلاميين حول صحة العبارة المنسوبة إلى غلادستون. وكنتُ أشرت في هذا المقال إلى أن العبارة المنسوبة إلى غلادستون هي غيض من فيض.
ومن هذا الفيض، سأختار كلاماً غير صحيح منسوباً لدارس وأكاديمي أميركي. واختياري له سببه أن بعض الكتب والمقالات الإسلامية تعزو الكلام المنسوب إليه إلى كتاب جلال العالم، «قادة العرب يقولون: دمّروا الإسلام أبيدوا أهله».


هذا الكتاب الذي ذكرت في أول مقال عرضت فيه عرضاً نقدياً لمناقشته الدكتور حمزة المزيني للإسلاميين حول صحة العبارة المنسوبة إلى غلادستون، وهو مقال «حمزة المزيني وهجومه الضاري على عمر فروخ»، أن سفر الحوالي في رسالته عن العلمانية للحصول على درجة الماجستير عزا العبارة المنسوبة إلى غلادستون إلى هذا الكتاب. وهو كتاب قلتُ عنه في هذا المقال إنه منشور سياسي وعقائدي ضد الغرب وتاريخه وحاضره مع العالم الإسلامي، وأضيف هنا أن الكتاب أسهم في تأجيج نيران السخط والغضب والعداوة لحكام العالم الإسلامي، منذ خلع السلطان عبد الحميد وإلغاء الخلافة العثمانية في محاضن الصحوة الإسلامية ومجال نفوذها التربوي والثقافي والعقدي في عقود خلت.
ومع أن الكتاب لم يأتِ بجديد في نطاق موضوعه، فإن خطورته على جمهور الكتاب الإسلامي وعِظَم تأثيره عليهم كانت أنه كتب بأساليب المناشير الدعائية العدوانية الغرائزية التي تستثير مكامن التعصب والتطرف والكراهية، وتشعلها عند المسلم؛ سواء أكان حدثاً أم شاباً، أم في منتصف العمر أم شيخاً أم كهلاً. وأنه كان كبسولة مركّزة يسهل ابتلاعها حتى عند من لا يستسيغ القراءة.


الكتاب من القطع المتوسط، عدد صفحاته ثلاث وستون صفحة. طُبع في لبنان عام 1974. ولسعة انتشار هذه الطبعة، طُبع ثانية عام 1975. وطبع طبعة ثالثة عام 1976. وتتالت طبعاته بعد ذلك في المنتصف الأخير من السبعينات، وطوال الثمانينات، وإلى الآن يُطبع.
الناشر كان مجهولاً. وقد أشار مؤلفه بعد نهاية مقدمة كتابه إلى أنه كتبها في طرابلس بتاريخ 15/ 8/ 1974. هو إسلامي سوري من حمص. اسمه الحقيقي عبد الودود بسام يوسف. درس التاريخ والشريعة بدمشق. وواصل دراسته العليا في التاريخ بجامعة عين شمس في القاهرة. وكان قبلها مفتشاً في مديرية المتاحف والآثار في دمشق. ثم مفتشاً في الهيئة المركزية للتفتيش. استقال من عمله الحكومي عام 1971، ليتفرغ للعمل الإسلامي السياسي الثوري المناهض لحكومة البعث في سوريا. عاش فترة في لبنان. وكان منغمساً في ذلك النشاط المناهض. قُبض عليه عام 1980. وغُيّب أثره في المعتقلات السورية. والغالب أنه اغتيل فيها. كتابه الآن يُنشر باسمه الحقيقي مضافاً إليه كنية الدمشقي.


كنتُ قبل سنة ألفين أو بعدها قرأت معلومة في الإنترنت عنه، تفيد بأنه من حزب التحرير الإسلامي، وليس من الإخوان المسلمين. ولست متأكداً من صحة هذه المعلومة. وربما يدعم صحتها روايته الإسلامية، «كانوا همجاً: قصة طويلة».
في هذه الرواية التي نشرها باسمه الثنائي، عبد الودود يوسف، بعد 300 سنة (ثلاثمائة سنة) من تاريخ نشره روايته في عام 1970، بث إعلام خلافة آخر الزمان خبراً بأنَّ بشارةً تنتظر المؤمنين في تمام الساعة السابعة مساء. وفي تمام الساعة السابعة، إلا خمس دقائق، خرج أمير المؤمنين على التلفاز لتبتهج النفوس برؤيته، معلناً مواصلة دولة الخلافة لاكتشافاتها النافعة للبشرية، حيث اخترع علماء الخلافة سيارة على شكل النحلة، سيتم توزيعها على كل «أخ» و«أخت» في أرجاء دولة الخلافة.
هذه السيارة لا تسير في الطرقات، كما السيارات المعهودة، وإنما تطير في الهواء من دون أن تصطدم بأخرى، حيث تبتعد السيارة إذا اقتربت منها أخرى تلقائياً، وتعمل بأدوات نظيفة للطاقة بعيداً عن المركبات القديمة التي تعمل بالبترول، والتي أنتجتها الشعوب الهمجية البائدة.
الشعوب الهمجية البائدة، كما في الرواية، هم الناس الذين عاشوا في ظل «العصور الجاهلية» التي سبقت عهد الخلافة. دولة الخلافة أعدّت فيلماً لتذكير الناس بتلك الشعوب وتلك العصور، تحت عنوان «الديكتاتوريات»، تلك الكلمة التي يقول إنها انمحت حينما حلّت دولة الخلافة حتى صار رعاياها في شتى بقاع الأرض لا يعلمون عن معنى الديكتاتورية شيئاً.
الخليفة في هذه الرواية الذي يحكم شتى بقاع الأرض، لا ينام حتى ينام الناس، ولا يأكل إلا إذا شبع الناس.
والناس فيها يزورون كل أسبوع متحف المودودي الذي قررت دولة الخلافة أن تخلّد ذكره، كونه يُعتبر رمزاً بجهاده وهو وإخوانه لإزالة الجاهلية الهمجية والدعوة للخلافة الإسلامية.
هذا التعلّق الهوسي والعصابي بالعودة الحتمية للخلافة الإسلامية يتكرر في استهلاله المعنون بـ«صرخة» في كتابه «… دمروا الإسلام وأبيدوا أهله»، وهذا الهوس بعودة الخلافة الإسلامية لا يكون إلا من تحريري. وقد يكون إخوانياً وتحريرياً في آن.
وللتأكد من تغوّل المفاهيم التي غرستها رواية جلال العالم وغرسها كتابه – وثيمة الرواية والكتاب هي ثيمة واحدة – في عقول الصحويين، يمكن للقارئ أن يطلع على مقال كتبه شاعر سعودي صحوي مشهور عند الإسلاميين، هو عبد الرحمن صالح العشماوي، في جريدة «الجزيرة»، بتاريخ متأخر، هو 10 شوال 1420، 16 يناير (كانون الثاني) 2000، العدد 9971، تحت عنوان «كانوا همجاً!!»؛ فهو في هذا المقال ما زال محتفياً بالرواية وبمضامينها، لا أقول الخيالية أو الطوبائية، وإنما المغالية والمتطرفة والمريضة.
يعرِّف الشاعر العشماوي الرواية، فيقول: «الرواية تقوم على فكرة انتشار الإسلام في أنحاء المعمورة بعد فترة من الانحسار، التي صنعتها هجمات الاستعمار، أو إن أردت التعبير الأدق فقل: الاستخراب الغربي، الذي حاول، وما يزال، إزالة آثار الدين بصفة عامة، والإسلام بصفة خاصة، من حياة البشر».
انظر إلى الخداع في التعريف بالرواية؛ فالرواية ليست فكرتها بهذه العمومية التي قالها. ففكرتها هي عودة الخلافة الإسلامية المحتومة وزوال – بحسب تعبير كاتبها – الأنظمة الجاهلية الهمجية في العالم العربي، وفي العالم الإسلامي وفي العالم بأجمعه.
وانظر إلى قوله: «الغرب الذي حاول وما يزال إزالة آثار الدين بصفة عامة، والإسلام بصفة خاصة»، إذ فيه تشذيب لأطروحة جلال العالم، ولغته في روايته، وفي كتابه «… دمروا الإسلام وأبيدوا أهله».
جلال العالم خص فرنسا برواية حمقاء اسمها «ثورة النساء: قصة طويلة»، ثارت النساء العاملات في خاتمتها على أصحاب العمل بسبب استغلالهن جنسياً! وثارت الزوجات على الأزواج، بسبب معاشرتهم للعشيقات والتقصير في حقهن!

تقوم فكرة كتاب «… دمروا الإسلام أبيدوا أهله»، الذي هو عبارة عن إعداد لا تأليف، على أنه لا مفر للمتتبع «لتاريخ العلاقات ما بين الغرب وشعوب الإسلام، (أن) يلاحظ حقداً مريراً يملأ صدر الغرب حتى درجة الجنون. يصاحب هذا الحقد خوف رهيب من الإسلام إلى أبعد نقطة في النفسية الأوروبية. هذا الحقد وذلك الخوف، كان من أهم العوامل التي تبلور مواقف الحضارة الغربية من الشعوب الإسلامية، سياسياً واقتصادياً، وحتى هذه الساعة».
وقبل أن يسوق لقارئ كتابه أدلّة دعواه، يعلن بثقة شديدة أنه «سوف تشهد لنا أقوال قادتهم أن للغرب، والحضارة الغربية بكل فروعها القومية، وألوانها السياسية، موقفاً اتجاه الإسلام لا يتغير. إنها تحاول تدمير الإسلام؛ إنهاء وجود شعوبه دون رحمة”
ثم يحدثنا أن قادة الغرب قديماً «حاولوا تدمير الإسلام في الحروب الصليبية الرهيبة، ففشلت جيوشهم التي هاجمت بلاد الإسلام بالملايين»، وأنهم حديثاً «عادوا يخططون من جديد لينهضوا… ثم ليعودوا إلينا بجيوش حديثة، وفكر جديد، وهدفهم تدمير الإسلام من جديد».
لماذا يريد قادة الغرب تدمير الإسلام؟!


الجواب نعثر عليه في استهلال الكتاب لا في مقدمته. يريدون ذلك «لأنه مصدر القوة الوحيدة للمسلمين». لذلك هم يقولون: «لنسيطر عليه، الإسلام يخيفنا، ومن أجل إبادته نحشد كل قوانا، حتى لا يبتلعنا».
وإزاء هذا الخطر الذي يهدد الإسلام بالتدمير وأهله بالإبادة، صاح ذو الاسم المستعار، وذو الناشر المجهول، بقادة وزعماء المسلمين، مرغباً لهم دنيوياً، وبسند علماني مُجمَع عليه عند أعداء الإسلام والمسلمين علماء الغرب وسياسيه: «بالإسلام تكتسحون العالم – كما يقول علماء العالم وسياسيوه – فلماذا تترددون…؟!!».
الدكتور حمزة المزيني في تتبعه لورود العبارة في نصف القرن الماضي في الكتابات الإسلامية المعاصرة، لم يكن يعلم بأمر كتاب جلال العالم، مع أن هذا الكتاب جداً مهم في تاريخ ورود العبارة عند الإسلاميين العرب. كما أنه ركن أول وأساس في إشاعتها عندهم وعند جمهور كتبهم في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته.
يسمي الدكتور حمزة صيغة العبارة الشائعة المنسوبة إلى غلادستون بالصيغة العربية. مع أن الصيغة الشائعة عند الإسلاميين العرب – كما أوضحت في مقالات سابقة – هي صيغة هندية نقلها عمر فروخ من الباكستانيين في الطبعة الثالثة من ترجمته لكتاب «الإسلام على متفرق الطرق»، الصادرة عام 1951.
وصيغة العبارة التي أوردها محمود شيت خطاب، في بحث له عن التربية العسكرية، والتي ذكرها الدكتور حمزة في تتبُّعه للعبارة، هي أقرب للصيغة التركية للعبارة. وللحديث بقية.

نقلا عن جريدة الشرق الأوسط

https://kalamfisyassa.com

اترك رد