مقتطف ١٠.. ضياع في استنبول.
حينما استقريت في مرسين سجلت ابنتي في مدرسة سورية للمهجرين، لكنها لم تكن سعيدة فيها ،فقد شعرت أنها تذهب إلى جامع وليس إلى مدرسة . ولم يمض وقت طويل على وجودنا هناك ، حتى بعثوا إلي برسالة لمراجعة مدير المدرسة . أو الإمام كما يسمونه ، فهو المفتي والقاضي والحاكم والولي ، في قضايا تخص السوريين. كان يرغي ويزبد مثل ضبع هائج عندما قابلني . وزاد من هيجانه ، رؤيته لشعري الأسود البراق المنسدل فوق كتفي ، وعلمت بحدس الأنثى والأم أن الآتي سيحمل لي ولابنتي كوارث لن تنتهي . قال لي المدير، وهو يمسد لحيته الشعثاء : هل زوجك مسيحي ؟.فأجبته بالنفي . فزمجر غاضبا : ابنتك لاتعرف الشرع ولاحدوده . وعندما سألته ماذا يقصد من كلامه هذا ، قال محاولا أن يظهر هدوءه : إنها تتحدث عن المسيح ومريم العذراء وتدافع عن المسيحيين باستمرار . فأجبته بحدة : ابنتي قد تربت في دير الآباء اليسوعيين فترة طويلة من الزمن، وقد ساعدنا الراهب (ف )كثيرا ، فلماذا تريد منعها من التحدث عما تأصل في روحها من قيم الخير والمحبة ؟ . ثم جمعت شظايا صوتي وفجرتها في وجهه : ألست سوريا ، ألم تعش بين المسيحيين؟. جن جنونه عند سماع هذه الكلمات، وتابعني بعينين تجمرتا داخل وجهه الناري ، أراد أن يطلق وسخه في وجهي ، لكن لا أعرف لماذا لم يفعل تلك اللحظة . اعتقدت أن بركانا خامدا ، سينهض من ثباته الطويل ويثور .لكنه همد همود الموتى ؟ لم يفعل شيئا وقتها بل ترك آخرين يفعلون بي ما عجز هو عن فعله . المناهج السورية هنا تعلم بعقلية القرون الوسطى ، كل يوم حصتان من مادة ديانة ، مع الغاء مادة الفلسفة وتقليل ساعات مادة الرياضيات . هذا الاكتساب الشرعي فرض طويلا على المتعلمين السوريين ، ولم يصح إلا عندما دمجت تلك المدارس بالمدارس التركية ، مما خلق ردة فعل قاسية لدى المتدينين الذين كانوا يتحكمون بالمناهج وطرائق التدريس التقليدية ، وتوزيع المعونات التي تكردست في مخازنهم والوسط الداعم لتوجهاتهم الدينية . بالنسبة لي أنزلت رؤوسهم عن كتفي ، عملت في البيوت كمرافقة للمسنين العجز ، ومعلمة رسم في بيوت الأتراك. لقد استأجرت بيتا على سطح إحدى البنايات القديمة المطلة على سهل مشجر بالزيتون ، هو لم يكن بيتا بالمعنى الحقيقي للبيت بل كان قنا للدجاج بلا نوافذ ، تعبق منه رائحة كريهة نتيجة لتجمع مفرزات العلف القديم ومخلفات الدجاج المربى لسنين طويلة ، سكنا فيه على كل حال بعد أن أصلحه لنا صاحبه ، ونظفه من المصع وطهره بمواد معقمة ،ثم فتح نافذتين عريضتين ، تدخل منهما شمس خجولة.