وليد فكري يكتب: ايجابيات الدولة العثمانية

بعد كل حديث عن العثمانيين وجرائمهم وكارثية حكمهم لابدَّ دائمًا من ذلك التعليق النمطي من بعض العثمانيين الجدد: “لكل دولة سلبياتها وإيجابياتها، فلتذكروا الإيجابيات كما ذكرتم السلبيات لتكونوا منصفين”.

أصحاب هذه العبارة “الكليشية” هم ممن ينطبق عليهم التعبير العامي المصري “حافظ مش فاهم”، فثمة “سياق” للحديث هو “جرائم العثمانيين”، فهل يُعقَل أن يحدثك أحدهم عن جرائم ينسب ارتكابها لفلان أو علان فتستوقفه وتقول له “يا رجل اذكر أيضًا إيجابياته”؟

خاصة عندما يكون سياق الحديث هو تناول جرائم ارتكبها احتلال غاشم بحق أوطان كاملة.. بالعقل..

فلنفكر معًا.. أنا رجل مصري، عربي، وثمة دولة غزت بلادي ووضعت في أهلها السيف وامتصّت خيراتها ومزقت وحدتها وقهرت أهلها وهمشتهم ونشرت بينهم الفقر والجهل والمرض ثم أسلمتهم للمحتل الأجنبي.. هل يُعقَل حين أتناول حكم هذه الدولة موضحًا من البداية أنني هنا لا أتحدث عن مجمل تاريخها-وهو ما يتطلب بالفعل ذكر كل الجوانب إيجابية كانت أم سلبية-وإنما سياق حديثي هو عن الجانب السلبي منه بحق بلدي أن أجد من يطالبني بذكر الإيجابيات؟ إن القول لا يخلو من غباء فضلًا عمّا فيه من وقاحة.

ولكن ما يستحق تسليط الضوء عليه هو بعض آليات أتباع العثمانيين الجدد لإفساد أي نقاش موضوعي حول التاريخ العثماني ولـ”الشوشرة” و”التشويش” على أي محاولة جادة لفضح أكاذيبهم التاريخية بشكل علمي من خلال ممارسة بعض التصرفات في ردهم على الاتهامات الموجهة للدولة العثمانية البائدة.

-الانحياز والتعصب:

القول الذي لا يقل غرابة عن “اذكر الإيجابيات” هو قولهم “أنت غير حيادي ومنحاز لرأيك”.. حسنًا.. لم أكن أعرف أن انحياز صاحب رأي لرأيه هو أمر مثير للدهشة.. أليس من الطبيعي أن كل صاحب رأي يعبر عن رأيه بشكل يفيد اقتناعه به وبالتالي انحيازه له؟ القائل هنا لا يعرف الفرق بين “الانحياز للرأي” و”التعصب للرأي”، فعندما أقول لك “أنا أرى كذا وكذا بسبب كذا وكذا وأدلتي هي كذا وكذا” فهذا عرض مني لرأي أنا أعتنقه وبطبيعة الحال أنحاز إليه، أما أن أقول “أنا أرى كذا” وكفى فهو عين التعصب.. والغريب أنه نفس ما يفعله أتباع العثمانيين الجدد، فالمتأمل في تعليقاتهم على أي نقد أو هجوم على الدولة العثمانية يجد أن أغلب تلك التعليقات هي إما سباب أو اتهام في الدين، من دون أدنى محاولة لتفنيد الكلام الذي يهاجمونه أو الرد عليه بشكل علمي منضبط.. ودائمًا يوجد ذلك التعليق “هذا كذب وتدليس”.. حسنًا، لما لا تتفضل يا عزيزي بالرد على الكذب والتدليس؟

إن مثل هذا السلوك هو نمط مميز لدى العثمانيين الجدد وغلمانهم، فهم يتهمونك بالتعصب للرأي بينما هذا هو نفس ما يفعلون، أي أنهم “يلصقون ما بهم بك” أو “يأخذونك بالصوت” لضعف حججهم وتهافتها..

-الحيادية والموضوعية:

ومن غرائب أقوالهم الاتهام الشهير “أنت غير محايد”.. وكأنهم لا يعرفون الفرق بين الحياد من ناحية والموضوعية من ناحية أخرى..
فالحياد هو ألا يكون لك انحياز لرأي أو توجه أو تحليل أو تفسير.

أما الموضوعية فهي أن تكون صريحًا في أنك تميل لهذا الرأي أو ذاك أو هذه القراءة للمشهد أو تِلك، ولكن بناء على معطيات علمية دقيقة تلتزم عرضها على القارئ.

والمفترض بمن يمتلك الحد الأدنى من الذكاء أن يدرك أنه طالما هذا الكاتب أو ذاك قد كتب ما كتب تحت بند “الرأي” وأظهر الانتصار لقراءة معينة للتاريخ، فإن هذا يتعارض تمامًا مع فكرة “الحياد”.. وانعدام الحيادية ليس بالسُبة ولا بالنقيصة، فهو أمر طبيعي جدًا في أي أطروحة علمية.

أما الافتقار للموضوعية فهو النقيصة، وهو يكون بأن يقوم الكاتب بتكوين النظرية قبل جمع المعطيات والأدلة والقرائن..  ثم يقوم بعد ذلك بانتقاء ما يخدم نظريته بغض النظر عن مصداقية ما انتقى أو ثبوت صحته فهذا هو تعريف “انعدام الموضوعية”..
فعندما أتناول حاكمًا بالذم وأتهمه بالمثالب وضروب الخيانة والتآمر على المسلمين، ثم لا أقدم دليلًا على ذلك وأكتفي بالقول “وتشير الدلائل” من دون أن أتعطف بذكر هذه الدلائل فهنا أنا غير موضوعي.. ونظرة واحدة لكتابات واحد من “كهنة الصنم العثماني” مثل علي الصلابي يمكنها أن توفر عليكم الحيرة حول “ما هو الأسلوب غير الموضوعي”، والصراحة أن حقيقة كون غلمان العثمانلي الجديد هم غالبًا من مريدي علي الصلابي وأنهم في الوقت نفسه يتهمون من يخالفهم أنه “غير محايد”، وكذلك أنهم يقرؤون التاريخ من خلف منظار “ديني” ويحصنون قراءتهم تلك دينيًا ثم في الوقت نفسه يتهمون غيرهم بانعدام الحياد، هي حقيقة مضحكة!.

-الإيجابيات الهزلية:

طبعًا حدث ولا حرج عن الإيجابيات الهزلية التي يذكرونها أحيانًا، كـ”السلطان فلان كان صوامًا قوامًا متصدقًا”.. حسنًا.. ما الذي يعنينا في ذلك عند تقييمه كحاكم؟ إن صلاته وصيامه وقيامه وصداقته هي لنفسه وليست للدولة.. ما الذي يفيد في صلاة وقيام سلطان مثل عبد الحميد الثاني-مثلًا- مقابل خيانته لمصر وتسليمه إياها للمحتل البريطاني؟ ما الذي ينفع من حفظ السلطان سليمان القانوني للقرآن بينما زبانيته يجوبون مصر ويمتصون دماء فلاحيها تحت تهديد السياط؟

أو “الدولة العثمانية حمت بلاد المسلمين”.. وكأن قيام دولة بحماية أراضٍ تبسط عليها سلطتها هو أمر غريب وفريد من نوعه (هذا لو فرضنا قيام العثمانيين أصلًا بحماية بلاد المسلمين والعرب)

أو قولهم بـ”المدن المسيحية عند مرور السفن العثمانية كانت تمتنع عن دق أجراس كنائسها خشية استفزاز المسلمين لغزوها”…حقًا؟ هل من مدائح العثمانلي تحوله إلى “بلطجي عبر البحار”؟ هل تم اختصار “عظمة المسلمين” في “إثارة العثمانلي للخوف لأناس يصلون”؟

أو توجد دائمًا القصة الكوميدية عن مطرقتي الباب الصغيرة والكبيرة، فإذا دُقَت الصغيرة علم أهل البيت أن الطارق امرأة لتفتح سيدة البيت ولو دُقَت الكبيرة فالطارق رجل ليفتح سيد البيت.. وتنتهي دائمًا القصة بعبارة “عندما كنا عظماء”.. حسنًا.. عفوًا يا ابن سينا ويا فارابي ويا ابن رشد ويا ابن الهيثم ويا أبو حامد الغزالي ويا سيبويه ويا أئمة المذاهب الأربعة ويا ابن ماجد ويا سيوطي ويا مقريزي ويا ابن خلدون، فثمة من قرروا أن كل ما قمتم به في تاريخ المسلمين هو غير ذي بال بينما العظمة يمكن اختصارها في مطرقة الباب!
أو- وهو القول الأكثر هزلية- “الشيخ الجليل القطب الكبير فلان الفلاني المعاصر لهذا السلطان قد مدحه وحمد سيرته، فمن طعن في السلطان فلان كمن طعن في الشيخ.

حسنًا.. هل الشيخ مؤرخ؟ هل هو باحث في التاريخ؟ مع احترامي الكامل للشيخ الكبير والقطب العظيم وكل ألقابه وتخصصاته الدينية فإنه متخصص في العلوم الدينية وليس في التاريخ والسياسة والحكم، بالتالي فإن الكلمة هنا في تقييم هذا السلطان المذكور الذي مدحه الشيخ الكبير هي للمتخصصين في التاريخ وليس للشيخ الذي إذا تحدث في الدين قلنا “على رأسنا قولك” ولكن إذا تحدث أهل التخصص التاريخي قلنا له “اسمع لهؤلاء يا شيخ”!.

-ختامًا:
عندما أكون صريحًا معك وأقول “أنا هنا لأتحدث عن عيوب هذه الدولة” فكن شجاعًا واجعل ردك: “وأنا سأرد على قولك بالأدلة العلمية”.. أما أسلوب “خذوهم بالصوت كيلا يتغلبوا عليكم” فهو أسلوب رخيص لا يليق بمناقشة علمية موضوعية محترمة، ولكنه بالتأكيد يليق بالعثمانيين الجدد وبغلمانهم الذين تنعكس أفكارهم الهزلية عن “الدولة العلية” وأحلامهم “أعادها الله” على رثاثة تفاعلهم مع نقد صنمهم الذي يسبحون بحمده آناء الليل وأطراف النهار!.

منقول عن موقع “العين الاخبارية”

https://kalamfisyassa.com

اترك رد